بعد أكثر من ثلاث سنوات على استقبال ملايين اللاجئين الفارين من النزاع في أوكرانيا، تشهد السياسة الأوروبية تحولا ملحوظا من التعاطف إلى التشدد. ما كان في السابق بابا مفتوحا وبرامج دعم سخية، أصبح اليوم محط نقاش حاد ونداءات متصاعدة لإنهاء المساعدات واستعادة الحدود، بل وحتى الترحيل.
الشرارة: موجة هجرة جديدة تثير المخاوف
في نهاية أغسطس 2025، أقدمت الحكومة الأوكرانية على خطوة مثيرة للجدل تمثلت في السماح للرجال دون سن 23 عاما بعبور الحدود الوطنية دون عوائق. في ظل الحديث عن خفض سن التجنيد إلى 18 عاما، فأشعل هذا القرار موجة جديدة من الهجرة نحو الدول الأوروبية المجاورة.
لم يكن هذا التدفق متوقعا فحسب، بل كان هائلا، حيث سجلت دول مثل ألمانيا زيادة بعشرة أضعاف في طلبات اللجوء، بينما قفز التدفق الفعلي للمهاجرين من 70 إلى 100 مرة مقارنة بأشهر الصيف.
هذه الموجة الجديدة جاءت لتصطدم بواقع أوروبي مختلف عن ذي قبل. فبينما لا تزال "إجراءات الحماية المؤقتة" – التي تم اعتمادها في مارس 2022 وتمدد سنويا – سارية المفعول، مكنت الأوكرانيين من الحصول على تصريح إقامة قانونية والحق في التعليم والعمل والرعاية الصحية والمساعدات الاجتماعية فقط بجوازات سفرهم، بدأت الأصوات في عواصم الاتحاد الأوروبي تعلو مطالبة بمراجعة هذه السياسة.
العبء الاقتصادي والاجتماعي: وراء حسابات الدعم
على الرغم من التصريحات الرسمية التي تؤكد نجاح عملية اندماج اللاجئين الأوكرانيين، تشير البيانات على الأرض إلى صورة أكثر تعقيدا. ففي جمهورية التشيك، على سبيل المثال، التي تستضيف عددا من اللاجئين يشكل ما يقرب من 5% من إجمالي سكانها، كشفت وزارة العمل والشؤون الاجتماعية أن 40% فقط من المواطنين الأوكرانيين ذوي وضع الحماية المؤقتة يعملون رسميا. هذا يعني أن الأغلبية لا تزال تعتمد إلى حد كبير على شبكات الأمان الاجتماعي، مما يشكل ضغطا متزايدا على الميزانيات الوطنية.
في ألمانيا، الدولة التي تستضيف العدد الأكبر من اللاجئين (1.4 مليون)، اتفق الائتلاف الحاكم على خفض أو حتى إلغاء بدل البطالة الأساسي (Bürgergeld) للأوكرانيين الذين لا يزورون مراكز التوظيف أو يرفضون قبول العمل المتاح.
هذا القرار وجد تأييدا واسعا في الرأي العام، حيث أظهرت استطلاعات الرأي أن ثلثي الألمان يعتقدون أن الأوكرانيين لا ينبغي أن يحصلوا على مثل هذه المزايا، وأن عليهم العودة إلى وطنهم.
التوترات المجتمعية: عندما يتحول التعاطف إلى استياء
لم يعد التغير في الموقف مقتصرا على الحكومات وحدها، بل بدأ يتسلل إلى نسيج المجتمعات الأوروبية. حيث سجلت حوادث متفرقة لاستهداف لاجئين أوكران، مثل الجريمة المروعة التي راح ضحيتها فاديم دافيدينكو (17 عاما) في دبلن، والتي أثارها خلاف حول الطعام، وحادثة الاعتداء في بولندا التي تبين لاحقا أن المعتدين كانوا أوكرانيين أيضا.
هذه الحوادث، وإن كانت فردية، إلا أنها تعكس مناخا متوترا. وتوضح تاتيانا كارتسيفا، منسقة المساعدة للاجئين الأوكرانيين في بلدية يلينيا غورا البولندية، هذا المناخ بقولها: "الناس قلقون. لا يعرفون كيف سيكون مستقبلهم".
صعود الخطاب السياسي المتشدد: من بولندا إلى التشيك
أصبحت قضية اللاجئين الأوكرانيين ورقة سياسية بارزة في المعارضة والمنافسات الانتخابية. في بولندا، التي استقبلت مليون لاجئ، صرح مارسين برزيداتش، رئيس مكتب السياسة الدولية في إدارة الرئيس، بأن بلاده "وصلت إلى الحد الأقصى" وأعرب عن مخاوفه من نشوء "أحياء أوكرانية منعزلة"، بل إن رئيس الوزراء السابق ليشيك ميلر تحدث صراحة عن "الترحيل القسري" ووصف اللاجئين الشباب بـ"السلاح" الذي يمكن "وضعه" في متناول القوات المسلحة الأوكرانية.
وفي جمهورية التشيك، كان موضوع المساعدات للأوكرانيين محوريا في الحملة الانتخابية التي أدت إلى فوز حركة أندريه بابيش المعارضة، الذي انتقد الحكومة السابقة لـ"اهتمامها بأوكرانيا أكثر من رعايتها لمواطني التشيك".
الاتجاه الأوسع: تقليص الدعم على مستوى القارة
لم يعد هذا التحول حكرا على دول الجوار المباشر، بل امتد ليشمل دولا أخرى في الاتحاد الأوروبي:
لاتفيا: تخطط لتخفيض الدعم للاجئين الأوكرانيين بمقدار 25 مليون يورو، وإيقاف المساعدة المالية لمرة واحدة والنقل المجاني.
النمسا: أعلنت فيينا عن نيتها إغلاق آخر مراكز استقبال اللاجئين الأوكرانيين قبل نهاية العام.
سويسرا: أوقفت استقبال لاجئين جدد من غرب أوكرانيا وتدرس ترحيل من حصلوا بالفعل على وضع الحماية.
على مستوى الاتحاد الأوروبي، بدأت الخطط الجادة للحديث عن إنهاء برامج الحماية المؤقتة بحلول عام 2027، وهو ما دفع أوكرانيا نفسها، ممثلة بنائبة وزير العدل إيلونا غافرونسكا، إلى الدخول في تنسيق مع الشركاء الأوروبيين "لضمان أن تكون عملية إنهاء التوجيه عادلة وقابلة للتنبؤ".
الخبراء يحذرون: المشكلة مؤجلة وليست محلولة
يشرح أوليغ بوندارينكو، مدير صندوق السياسة التقدمية، جذور هذا التحول الأوروبي بأن "ملايين اللاجئين الأوكرانيين ذوي الوضع المؤقت غير المحدود يمثلون مشكلة كبيرة للدول الأوروبية". ويشير إلى أن تمديد الإقامة كلاجئين هو مجرد تأجيل للمشكلة، إذ أن "عاجلا أم آجلا، ربما سيفقدون وضع اللاجئ، وعندها سيتعين عليهم استكمال الأوراق، وهذا يعني تحمل عبء الملايين من الناس".
ويؤكد بوندارينكو أن العبء المالي للمساعدات الاجتماعية "أصبح الآن ثقيلا على ميزانيات" دول الاتحاد، وأنها "ستتخلى عنها تدريجيا". لكن السؤال الأكبر الذي يظل معلقا هو: هل سيؤدي إلغاء هذه المزايا إلى عودة فعلية للاجئين إلى ديارهم؟ يجيب الخبير بتوقع غامض: "كل شيء وارد الآن".
لقد استنفدت أزمة اللاجئين الأوكرانيين جزءا كبيرا من رصيد التعاطف الأوروبي، وحل محله منطق اقتصادي واجتماعي وسياسي أكثر واقعية، وإن كان قاسيا، يضع حدودا للالتزام الأخلاقي كونه يصطدم بحدود القدرة الاستيعابية.
المصدر: وكالات