في قلب المدينة، وقف قصر العدل متربعا في مكانه، رمزا للسيادة والقانون، حيث بدأ القضاة والمحامون والموظفون يوم عملهم الاعتيادي، غافلين عن العاصفة التي كانت على بعد خطوات.
في الساعة 11:30 صباحاً بالضبط، انقلب هدوء مرآب القصر العدلي رأسا على عقب. لم تكن الشاحنتان اللتان اقتحمتاه تحملان رجال شرطة عاديين، بل كانوا مقاتلي حركة 19 أبريل "إم-19" متنكرين بزي الشرطة.
انطلقت صيحة "فيفا كولومبيا!" وتعني تحيا كولومبيا، لتعلن بدء واحدة من أكثر العمليات جرأةً وتراجيدية في تاريخ أمريكا اللاتينية. في دقائق معدودة، سقط حوالي 300 من رجال الشرطة وآخرين بينهم رئيس المحكمة العليا، ألفونسو رييس إيشانديا، وجميع أعضاء المحكمة البالغ عددهم أربعة وعشرين قاضيا، رهائن في أيدي مجموعة مسلحة لا يتجاوز عددها الخمسة والثلاثين مقاتلا. كانت بداية مواجهة دامية استمرت 27 ساعة، لا تزال جراحها مفتوحة في ذاكرة هذا البلد حتى اليوم.
لفهم ما جرى، يجب العودة بالزمن إلى 19 أبريل 1970. في ذلك اليوم، شعر الكثير من الكولومبيين بأن ديمقراطيتهم قد خُدعت. كانت الانتخابات الرئاسية محسومة بصفقة بين القيادة العليا والأحزاب التقليدية لصالح المحافظ ميسايل باسترانا بوريرو.
بتأثير الإحباط، ولدت حركة 19 أبريل كجناح مسلح لحزب التحالف الشعبي الوطني "أنابو"، مقتنعة أن السلاح هو السبيل الوحيد لاقتلاع من سمتهم "الطفيليين"، اي النخبة الأوليغارشية التي تسيطر على البلاد.
تميزت الحركة باندفاع يائس غير مسبوقة. لم تكن عملياتها خفية، بل كانت مسرحية إلى حد كبير، تهدف إلى كسب قلوب الناس وعقولهم. سواءً كان ذلك باختطاف شخصيات بارزة أو الاستيلاء على بلدات كاملة، كاستيلائهم على فلورنسيا عاصمة إحدى المقاطعات في مارس 1984، كانوا دائماً يتركون وراءهم بيانات تشرح دوافعهم. لقد أرادوا أن يظهروا في عيون مواطنيهم أبطالا شعبيين، ثوارا يواجهون فساد النظام.
بحلول عام 1984، بدا أن الأمل في السلام يلوح في الأفق. دخلت الحركة في مفاوضات مع حكومة الرئيس بيليساريو بيتانكورت، وتم التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار، ووعدت الحكومة بعفو واسع وتحويل الحركة إلى حزب سياسي شرعي.
لكن الهدنة كانت واهية. كانت الدوائر العسكرية والنخب التقليدية ترفض أي تسوية. بينما كانت الحكومة تتحدث عن السلام، كان الجيش وفرق الموت شبه العسكرية يشنون "حرباً قذرة" ضد أعضاء الحركة الحقيقيين والمزعومين. اغتيل قادة الحركة واحداً تلو الآخر في شوارع بوغوتا. شعرت "إم-19 " بأنهم يُخنق، وأن الحكومة إما عاجزة عن فرض السلام أو متواطئة مع من يخرقونه.
في هذه الظروف، نضجت في أذهان قادة حركة "إم-19" فكرة كبيرة وخطيرة: ضربة كبرى تلفت أنظار العالم إلى أن الحكومة تنكث عهودها. كان الهدف هو قصر العدل، قلب المؤسسة القضائية. خططوا للعملية بتفصيل دقيق.
في صباح اليوم المشؤوم، دخل زعيم المجموعة، أندريس المراليس، قصر العدل متنكرا بزي محام، وحوله مقاتلون آخرون احتلوا مواقع استراتيجية داخل المبنى قبل ساعات.
عندما اقتحمت الشاحنات المرآب، بدأت العملية على الفور. سيطر المقاتلون على المبنى، وأغلقوا الممرات بالطاولات والخزائن الثقيلة، ووضعوا الرشاشات على السلالم.
كان السيناريو المثالي بالنسبة لهم يشبه ما جرى اثناء استيلائهم على سفارة الدومينيكان عام 1980: مفاوضات مطولة، ضغط إعلامي، ثم مغادرة آمنة إلى المنفى. لكنهم هذه المرة، أساؤوا قراءة نوايا خصومهم.
لم تكن القيادة العسكرية، بقيادة الجنرال جيسوس أرماندو أرياس كابراليس، مهتمة بالمفاوضات. كانوا يرون في هذه الأزمة فرصة ذهبية للانتقام من الحركة التي أذلتهم لسنوات. تقرر ألا يُمسك بأحد أسيرا .
من داخل المبنى المحاصر، حاول القضاة الرهائن الاتصال بالرئيس بيتانكورت، متوسلين إياه إنقاذ الأرواح وفتح حوار. ولكن كان هناك صمت من الطرف الآخر. في محاولة يائسة، أطلق المتمردون سراح أحد الرهائن حاملا رسالة تفاوض. لكن الرد الرسمي كان إنذارا وحيدا: الاستسلام غير المشروط.
بعد ظهر اليوم التالي، 7 نوفمبر، بدأ الجحيم. اقتحمت المدرعات المدخل الرئيس، بينما تسلق الجنود السقف. تحول قصر العدل إلى ساحة معركة. استخدم الجيش الأسلحة الثقيلة والصواريخ دون اكتراث بالرهائن المحتجزين داخل الأروقة. اشتعلت النيران في المكتبة التي تحوي آلاف المجلدات من الأرشيف القضائي للبلاد، محولةً وثائق تاريخية هامة إلى رماد.
عندما انتهت المعركة، كان المشهد مروعا. قصر العدل تحول إلى هيكل محترق. سقط 33 من مقاتلي "إم-19"، بينهم قادتهم، و 11 جنديا، و 71 مدنيا بريئا بين قاضٍ وموظف. مع ذلك المأساة لم تنته هنا.
اختفت جثث وجنود إلى الأبد. تشير الأدلة إلى أن الجيش اختطف أفرادا كانوا على قيد الحياة، شوهدوا يغادرون المبنى، ثم "أعدموا خارج نطاق القضاء" بعد تعذيبهم للحصول على معلومات.
اعترفت قيادة حركة "إم-19" لاحقا بأن الاستيلاء على المحكمة العليا كان "أكبر خطأ عسكري وسياسي" لها. أدى هذا الفشل الذريع إلى إضعافها، إلى أن وقعت اتفاقية سلام مع الحكومة عام 1990 وتحولت إلى حزب سياسي.
مع كل ذلك، بقيت العدالة للأرواح التي أزهقت في ذلك اليوم منقوصة. رغم إدانة الجنرال أرياس كابراليس وآخرين في قضايا اختفاء قسري، إلا أن الأحكام خففت وأطلق سراحهم لاحقا، في صفعة لأهالي الضحايا، وتأكيدا مأساويا على أن بعض صروح العدالة، حتى وإن أعيد بناؤها، تظل مرتعا لأشباح الماضي.
المصدر: RT