ويقول العالم اللبناني بيير زلوع، من الجامعة الأميركية في بيروت والمختص بعلم الوراثة، إن "فك رموز الحمض النووي يظهر أن المجتمع الفينيقي كان شاملا ومتعدد الثقافات. وأن الفينيقيين لم يكونوا غزاة، وكانوا دائما أصحاب رحلات سلمية وتجارية"، وفقا لمقال نشر في مجلة "بلوس وان".
ويفسر المؤرخون كلمة "فينيقيا" بمجتمع ثقافي تاريخي خاص، نشأ في نهاية الألفية الثانية قبل الميلاد على الساحل الشرقي للبحر المتوسط، في العديد من المدن مثل صور وصيدا وجبيل (بيبلوس).
وسريعا ما شكلت فينيقيا أكبر شبكة تجارية على مدى العصور الوسطى والمتأخرة، وأنشأ التجار الفينيقيون مئات المراكز التجارية والمستوطنات حول ساحل البحر الأبيض المتوسط.
وخلافا لمعظم الممالك والإمبراطوريات في ذلك الوقت، فإن فينيقيا على العموم ومدنها ومستوطناتها ذات الإدارة الذاتية لم تمتلك جيشا دائما، وقاتلت مجتمعة، أو مع الدول المجاورة معتمدة على خدمات المرتزقة.
وبقيت المدن الفينيقية في ذروة قوتها لما يقارب 1500 عام، وبدأت تختفي تدريجيا من الساحة العالمية في القرن الرابع قبل الميلاد بعد غزو فارس من قبل الإسكندر الأكبر (المقدوني)، وتدمير مدينة صور على يد الهيلينيين (اليونانيين) لرفض أهلها الاستسلام.
ويقول الدكتور زلوع: "لا نعرف شيئا عن الفينيقيين تقريبا، لأنهم لم يتركوا أثرا مكتوبا، خلافا عن المعلومات التي يمكن التقاطها من المخطوطات المصرية واليونانية والرومانية القديمة".
وقد تمكن العالم اللبناني وزملاؤه من كشف أحد الأسرار الرئيسة لنجاح الفينيقيين الذين كانوا قادرين على غزو أراض جديدة دون وجود جيش عسكري، عبر فك رموز ودراسة "جينوم" (العامل الجيني) لبقايا ثلاثين شخصا من سكان جزيرة سردينيا والمناطق المحيطة بمدينة بيروت المعاصرة، من الذين عاشوا هناك قبل وبعد ظهور أول المدن والمعامل الفينيقية، أي منذ حوالي 2800 إلى 3800 سنة مضت.
واستعاد الباحثون الحمض النووي المتوارث من الميتوكوندريا، وقارنوالنتائج فيما بينها، ثم مع العنصر الجيني لسكان سردينيا ولبنان المعاصرين. وهدف الباحثون من خلال هذه المقارنة إلى الإجابة على سؤال: هل غزا الفينيقيون المناطق التي سيطروا عليها وطردوا السكان المحليين منها بالقوة، أم تعايشوا معهم؟
وبينت المقارنة أن العنصر الجيني للفينيقيين والسكان الأصليين موجود على قدم المساواة لدى سكان المستعمرات كما هو عليه في مناطق الأصل. ويعتبر الدكتور بيير زلوع أن تنوع العنصر الجيني للفينيقيين يعني أنهم لم يعملوا على ترحيل السكان الأصليين أو طردهم، بل على ما يبدو عملوا على استيعابهم تدريجيا عبر نشر الثقافة الفينيقية، والاختلاط عن طريق تزويج المرأة الفينيقية من القادة المحليين كأداة لتعزيز العلاقات مع قبائلهم. ومن ثم عودة الأبناء من هذه الزيجات إلى المدن الفينيقية ونقل الجينات "الأجنبية" إلى الفينيقيين الأصليين.
المصدر: نوفوستي
ناصر قويدر