في تاريخه الرياضي الطويل والحافل ذاق محمد علي كلاي مرارة الهزيمة 5 مرات. مع ذلك، المرارة الحقيقية التي ناضل من أجلها طيلة حياته كانت العنصرية المقيتة والظلم وعدم المساواة التي عانى منها أبناء جلدته، الأمريكيون من أصول إفريقية.
لم يكن محمد علي كلاي مجرد أحد الأبطال العالميين في حلبات الملاكمة. لقد جعل من الملاكمة القاسية فنا رفيعا وحوله إلى ما يشبه حلقة رقص لاستعراض الإرادة والقدرات البنية. استعد لذلك بالتدريبات الشاقة حتى أصبح في حلبات النزال مثل فراشة ناعمة ومثل نحلة لاسعة، وبقبضة حديدية وقدرات هائلة على المناورة لا يجاريه فيها أحد.
محمد علي لم يكن ملاكما محترفا فقط، كان إنسانا كبيرا، وصاحب مثل ومبادئ سامية حقيقية تساوي بين الجميع ولا تتلون مع الظروف. كان ناقدا صارما لا يهادن حتى مع نفسه.
وجد محمد علي ملجأه وراحته الروحية في الإسلام. اعتنق هذا الدين في عام 1964 وكان يبلغ من العمر 22 عاما، وغير اسمه من كاسيوس كلاي إلى محمد علي كلاي، وأصر باستماتة على أن يناديه الجميع دائما بهذا الاسم، معتبرا أن اسمه الأصلي السابق، اسما للعبودية "لم اختره ولا أريده".
نفوره الشديد من مظاهر التمييز العنصري الشائعة وقتها في الولايات المتحدة، دفع به إلى الإسلام. وكانت هذه الخطوة بمثابة عودة إلى الجذور، وحصنا منيعا اختاره ولم يتخل عنه أبدا.
روى محمد علي أنه عاد إلى بلدته بميداليتي بعد الألعاب الأولمبية بميداليته الذهبية البراقة. مضى لتناول العشاء في مطعم لا يستقبل الزبائن داكني البشرة. قال إنه كان يعتقد أنه سيعيدهم إلى رشدهم، وسيغير مفاهيمهم الخاطئة. جلس إلى طاولة وهو يظن أن البطولة الأولمبية والميدالية الذهبية ستشفع له... وقالوا له: " نحن لا نخدم الزنوج"، رد متحديا قائلا: "لا بأس، أنا لست متسولا"، لكنهم "طردوني على أي حال.. ذهبت بعد ذلك إلى الشاطئ، إلى نهر أوهايو، ورميت ميداليتي الذهبية في الماء".
بعد تحوله إلى الإسلام وكان لا يزال شابا صغيرا، لكن بإيمان لا يتزعزع، سئل عما إذا كان ندم على فعل شي ما في حياته، فرد على الفور قائلا: "نعم.. بالتأكيد. لو اتيحت لي الفرصة لأعيش حياتي مرة أخرى، لكنت اعتنقت الإسلام في سن العاشرة"!
في مقابلة بعد أدائه فريضة الحج في عام 1972، تحدث كلاي عن انطباعاته قائلا: "كانت توجد في حياتي لحظات رائعة. لكن الشعور الذي أحسست به حين وقفت على جبل عرفات أثناء الحج كان لا يضاهى. كنت محاطا بجو روحي لا يوصف في هذا المكان، حيث تعالت أصوات أكثر من مليون ونصف المليون مسلم إلى الله، متوسلين إليه أن يغفر خطاياهم ويمنحهم بركته. لقد كانت لحظة مثيرة للغاية، مشاهدة كيف ابتهل أناس من مختلف الألوان والجنسيات والملوك ورؤساء الدول ومن عامة الناس، وكلهم يرتدون قطعتين من القماش الأبيض البسيط، إلى الله، تاركين أي شعور بالفخر أو التفوق. كان مظهرا عمليا لمفهوم المساواة في الإسلام".
الأضواء سُلطت بشكل خاص على محمد علي كلاي في عام 1967، حين رفض التجنيد في القوات المسلحة الأمريكية أثناء حرب فيتنام، لأن تلك الحرب الظالمة تتعارض مع مبادئ دينه. أدين كلاي بالتهرب من الجندية، وحكم عليه بالسجن لمدة خمس سنوات، وغرامة قدرها 10000 دولار، كما جرد من لقب بطل العالم في الوزن الثقيل، ومنع من مزاولة الملاكمة لمدة 3 سنوات. حينها بقي صامدا على موقفه وتمكن من تفادي السجن، ثم عاد إلى حلبات الملاكمة في عام 1970.
دافع بحرارة عن الإسلام وكان دائما يؤكد سماحته ومبادئه السامية في مواجهة الأفكار المغلوطة عنه في الغرب، ووقف في نفس الوقت ضد ظاهرة الإرهاب. في أعقاب الهجمات التي نفذها متطرفون في باريس في نوفمبر 2015، صرح محمد علي كلاي قائلا: "أنا مسلم، ولا علاقة للإسلام بقتل الأبرياء في باريس أو سان برناردينو. يعرف المسلمون الحقيقيون أن العنف الوحشي لما يسمى (المتطرفين) يتعارض مع المبادئ الأساسية لديننا".
محمد علي بقي وفيا مخلصا لمبادئه حتى النهاية. بقي صوتا إنسانيا فريدا لا يهادن. سئل في إحدى المناسبات عما إذا كان شعر بالندم في حياته. أجاب قائلا: " يؤسفني أنه قبل مبارياتي الأخيرة أهنت جو فرايزر وتفاخرت أمامه قائلا إن "المسوخ لا يصبحون أبطالا".
كلاي كشف حينها بأنه اعتذر عما بدر منه لغريمه بعد ثلاثين عاما من الحادثة، واعتذاره قُبل. مثل هذه المواقف الكثيرة في حياة محمد علي كلاي، جعلت منه ليس فقط ملاكما لا مثيل له، بل وإنسانا كبيرا بمبادئ سامية وإرادة صلبة.
انتهى مشوار محمد علي كلاي الحياتي في 3 يونيو عام 2016 عن عمر ناهز 74 عاما، بعد معاناة طويلة استمرت 30 عاما مع مرض باركنسون. رحل عن عالمنا وبقي صفحة مضيئة خالدة في تاريخ العالم.
المصدر: RT