وتعد المناطق الحدودية للثقوب السوداء بيئات غير مستقرة، إذ لا يحدّ من سرعة انجراف المادة نحوها سوى الإشعاع الكثيف المتدفق من حافة أفق الحدث. وتؤدي هذه الظروف المتطرفة إلى حدوث توهجات ونفثات وانفجارات عنيفة يصعب نمذجتها بدقة.
وفي هذا السياق، قدّم باحثون من معهد فلاتيرون في الولايات المتحدة دراسة نمذجة متقدمة تعد الأكثر تفصيلا حتى الآن، توضّح كيفية ابتلاع الثقوب السوداء ذات الكتلة النجمية للمادة، ثم قذفها مرة أخرى بمعدلات متفاوتة.
واعتمدت الدراسة على عمليات محاكاة متطورة تجاوزت التبسيطات التي فرضتها النماذج السابقة، والتي كانت ضرورية في الماضي لتقليل التعقيد الحسابي. وبدلا من ذلك، استند الباحثون إلى بيانات فيزيائية أكثر شمولا، ما أتاح تمثيلا أدق للواقع.
وباستخدام حاسوبين عملاقين فائقي القدرة، دمج الفريق بيانات رصد تدفقات التراكم حول الثقوب السوداء مع قياسات دورانها وحقولها المغناطيسية، لتطوير نموذج جديد يصف بدقة حركة الغاز والضوء والمغناطيسية حول ثقوب سوداء لا يتجاوز حجمها كثيرا حجم الشمس.
وقال عالم الفيزياء الفلكية ليزهونغ تشانغ، من معهد فلاتيرون، إن هذه الدراسة تمثل المرة الأولى التي يتم فيها تضمين أهم العمليات الفيزيائية في نمذجة تراكم المادة حول الثقوب السوداء بهذا المستوى من الدقة، مشيرا إلى أن هذه الأنظمة غير خطية إلى حدّ يجعل أي افتراض مبسط كفيلا بتغيير النتائج جذريا.
وأظهرت نتائج المحاكاة توافقا مع الرصد الفلكي لأنواع متعددة من أنظمة الثقوب السوداء. ففي حين أصبح تصوير الثقوب السوداء فائقة الكتلة ممكنا، لا يزال تحليل الضوء الصادر عن الثقوب الأصغر ضروريا لفهم كيفية توزيع طاقتها.
وبيّن الباحثون أن الثقوب السوداء، عند جذبها كميات كافية من المادة، تشكّل أقراص تراكم سميكة تمتص قدرا كبيرا من الإشعاع، ثم تطلق الطاقة على هيئة رياح ونفاثات قوية.
كما كشفت المحاكاة عن تشكّل قمع ضيق يبتلع المادة بمعدلات هائلة، منتجا حزمة إشعاع لا يمكن رصدها إلا من زوايا رؤية محددة، وهو ما يفسر اختلاف الملاحظات الفلكية من نظام إلى آخر.
وأظهرت الدراسة أيضا أن للمجال المغناطيسي المحيط دورا محوريا في تنظيم سلوك الثقب الأسود، إذ يساهم في توجيه تدفق الغاز نحو أفق الحدث، ثم في إعادة قذفه على شكل رياح ونفاثات.
وأوضح تشانغ أن الخوارزمية المستخدمة في هذه الدراسة هي الوحيدة حاليا التي تتعامل مع الإشعاع وفقا لقوانين النسبية العامة كما يحدث في الواقع، ما يمنح نتائجها موثوقية عالية.
وتستند المحاكاة إلى نظرية النسبية العامة لأينشتاين، إلى جانب نماذج فيزيائية تفصيلية تصف سلوك بلازما الغاز والمجالات المغناطيسية وتفاعل الضوء مع المادة في الزمكان المنحني.
وفي المرحلة المقبلة، يخطط الباحثون لاختبار قابلية تطبيق هذه النماذج على أنواع أخرى من الثقوب السوداء، بما في ذلك الثقب الأسود فائق الكتلة Sagittarius A* في مركز مجرة درب التبانة.
نشرت الدراسة في مجلة الفيزياء الفلكية.
المصدر: ساينس ألرت