مباشر

السوفييت يخطون أول سطور بشرية على الكوكب الأحمر

تابعوا RT على
في الثاني من ديسمبر عام 1971، كتب التاريخ أولى سطوره على الكوكب الأحمر، عندما نجحت وحدة الهبوط التابعة للمسبار السوفيتي "مارس 3" في تحقيق ما عُدَ إنجازا خارقا في ذلك الوقت.

تمثل ذلك في هبوط سلس على سطح المريخ هو الأول في العالم. لم تكن مجرد خطوة تقنية عابرة، بل كانت لحظة فارقة في سباق الفضاء، إذ أصبح الاتحاد السوفيتي أول دولة توصل بسلام مركبة من صنع البشر إلى سطح هذا الكوكب البعيد، متقدمة بذلك على الولايات المتحدة، التي لم تتمكن من تحقيق هبوط مماثل إلا بعد 3 سنوات، في يوليو 1974.

بدأت الرحلة الملحمية لوحدة الهبوط عندما انفصلت عن المحطة الأم، لتبدأ رحلتها التي استمرت قرابة الأربع ساعات ونصف نحو سطح المريخ. بسرعة هائلة بلغت 5.8 كيلومتر في الثانية، اخترقت المركبة الغلاف الجوي للكوكب الأحمر بزاوية دقيقة، لتبدأ مرحلة الكبح الديناميكي الهوائي بمساعدة درع واق ومظلة، في عملية محفوفة بالمخاطر انتهت بهبوطها الآمن بين منطقتي "إليكتريس" و"فايتونتيا" داخل الفوهة العملاقة "بطليموس". كانت اللحظة تاريخية، لقد أثبتت التكنولوجيا الأرضية أنها قادرة على الوصول إلى هذا العالم البعيد والهبوط على تربته.

بعد دقيقة ونصف فقط من الهبوط، بدأ المسبار الآلي عمله كما كان مُخططا، وأخذ يُرسل أولى الإشارات إلى الأرض، حاملة معها أول صورة بانورامية للمنطقة المحيطة. لكن الفرحة لم تدم طويلا، فبعد 14.5 ثانية فقط من بدء الإرسال، توقف تدفق البيانات فجأة وبشكل تام. لم يصل إلى الأرض سوى 79 سطرا مشوشا من بيانات الصورة، كانت عبارة عن خليط عشوائي من الخطوط البيضاء والرمادية والسوداء، من دون أن تُظهر أي تفاصيل واضحة للكوكب. لقد تحول الإنجاز التاريخي إلى لغز محير، حيث حُرم العلماء من رؤية ما التقطته عيون المركبة الأولى على الكوكب الأحمر.

لكن رحلة "مارس 3" لم تكن مجرد محاولة للهبوط على سطح المريخ والتقاط الصور. قبل أن يفقد الاتصال بالمركبة نهائيا، تمكنت وحدة الهبوط من تنفيذ مهمة أخرى بالغة الأهمية، حيث قامت، باستخدام مناور خاص، بإفراغ مركبة جوالة صغيرة الحجم على السطح، عُرفت باسم "جهاز تقييم نفاذية المريخ". كان الهدف من هذا الجهاز هو اختبار تربة المريخ وقياس صلاحيتها لمدى تحمل مركبات الاستكشاف المستقبلية، ما يجعله أول روبوت متحرك يُنشر على سطح كوكب آخر في تاريخ البشرية.

رغم الفشل الجزئي في الاتصال، إلا أن الهبوط السلس لوحده يعد بحد ذاته إنجازا كبيرا، خاصة في سياق المسيرة المحفوفة بالتحديات لاستكشاف المريخ.

المهمة واجهت منذ البداية صعوبات جمة، أبرزها نقص المعلومات الدقيقة عن طبيعة الغلاف الجوي للمريخ، وتضاريسه المتقلبة، وتركيب تربته، والظروف الجوية غير المتوقعة في موقع الهبوط. كل هذه العوامل جعلت من عملية الهبوط مغامرة تقنية.

لم تكن "مارس 3" هي المحاولة السوفيتية الأولى. في عام 1962، أُُطلق المسبار "مارس 1"، لكن الاتصال به انقطع في منتصف الرحلة بعد أن قطع مسافة قياسية بلغت 106 ملايين كيلومتر. رغم أن المهمة لم تكتمل، إلا أنها منحت العلماء خبرة لا تقدر بثمن في الحفاظ على الاتصالات عبر المسافات الشاسعة. كما أن المسبار "مارس 2"، الذي أُطلق قبل "مارس 3" بفترة وجيزة في نفس العام، شهد فشلا لوحدة الهبوط، وتحطم على سطح المريخ، ليصبح مع ذلك أول جسم من صنع الإنسان يصل إلى الكوكب الأحمر. لقد أظهرت هذه المحاولات المتعاقبة الإرادة الصلبة للعلماء السوفييت الذين تعلموا من كل فشل ولم ييأسوا.

أما المحطة الأم لـ "مارس 3"، التي بقيت في مدار حول المريخ، فكانت أنجح بكثير. عملت لمدة أربعة أشهر كاملة، قامت خلالها بتصوير سطح الكوكب بدقة، ودراسة مجاله المغناطيسي الضعيف، وتحليل تركيب غلافه الجوي، وجمع كميات هائلة من البيانات العلمية القيمة التي أثرت فهم البشرية للمريخ، مكملةً بذلك عمل "مارس 2" المدارية التي عملت لثمانية أشهر.

بقي مصير المركبة "مارس 3" على السطح مجهولا لعقود، حتى جاء عام 2013 ليحمل مفاجأة مذهلة. بعد تحليل صور الأرشيف الملتقطة بواسطة مركبة "ناسا" العاملة على المريخ عام 2007، تمكن فريق من علماء الفلك الهواة من تمييز بقايا المركبة السوفيتية داخل فوهة بطليموس. ظهرت في الصور وحدة الهبوط ذاتها، ومحرك الهبوط الناعم، ودرع الكبح الديناميكي، وحتى المظلة التي ساعدتها على الهبوط قبل أكثر من أربعة عقود.

قصة "مارس 3" هي قصة إرادة بشرية صامدة في وجه المجهول. إنها شهادة على روح الاكتشاف التي تدفعنا للانطلاق إلى عوالم لا نعرف عنها سوى النذر اليسير. رغم أن إرساليتها السطحية لم تدم سوى ثوان، إلا أن إرثها استمر لعقود. ذلك الهيكل المعدني الواقف الآن على تلال فوهة بطليموس البعيدة ليس مجرد بقايا فضائية، بل نصب تذكاري شاهد على لحظة تاريخية جريئة، حين امتدت يد البشر لأول مرة لتلمس تراب عالم آخر، مفتتحة بذلك عصر استكشاف الكوكب الأحمر الذي لا تزال فصوله تتوالى حتى اليوم.

المصدر: RT

هذا الموقع يستخدم ملفات تعريف الارتباط .بامكانك قراءة شروط الاستخدام لتفعيل هذه الخاصية اضغط هنا