وقع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الجمعة، مرسوما بمنح وزير الخارجية سيرغي لافروف، وسام "القديس الرسول أندراوس" بمناسبة بلوغه 75 عاما
لافروف 75 عاما: أقلع عن التدخين وأدمن الدبلوماسية
/ RT
وهو أرفع أوسمة الدولة في روسيا، تقديرا لإسهاماته البارزة، كما جاء في المرسوم.
RT
يعتبر لافروف أطول وزراء الخارجية الأحياء عمرا في المنصب، سبقه الراحلون أندريه غروميكو وزير خارجية الاتحاد السوفيتي للفترة من (1957- 1985)، والأمير سعود الفيصل وزير خارجية المملكة العربية السعودية وكان شغل المنصب قرابة الأربعة عقود، وأمير الكويت الراحل صباح الأحمد الجابر الصباح (1929- 2020) وكان قبلا وزيرا للشؤون الخارجية طيلة 40 عاما. ويدخل يوسف بن علوي الوزير المكلف بالشؤون الخارجية في سلطنة عمان نادي أقدم وزراء الخارجية الأحياء إلى الآن، إذ شغل المنصب للفترة (1997- 2020).
وأصبح سيرغي لافروف وزيرا لخارجية روسيا الاتحادية في 9 آذار/ مارس من العام 2004، وجاء تسلسله الرابع بين وزراء روسيا منذ انفراط عقد الاتحاد السوفيتي، وقبلها شغل لعقد كامل منصب المندوب الدائم لروسيا في الأمم المتحدة، واشتهرت عنه حادثة رفضه الامتناع عن التدخين في أروقة المبنى الزجاجي حين أصدر الأمين العام للأمم المتحدة كوفي عنان أمراً بمنع التدخين في المكاتب، وكان لافروف مدخنا شرها، يتبختر في الممرات، ليتدخل حارس ويطلب منه التوقف عن التدخين، مبرزا أمر كوفي عنان؛ فما كان من لافروف إلا رده بحدة: "اذهب وبلّغ كوفي أن هذا المبنى ليس ملكا له. نحن الدول الأعضاء ندفع نفقاته"، ومضي لا يلوي على شيء وسط سحابة الدخان.
ولعل طائرة لافروف الوحيدة التي يسمح لركابها بالتدخين إلى أن كادت تحترق مرة بفعل أن صحفيا من الوفد المرافق للوزير أخذته سنة من النوم في طريق العودة من رحلة طويلة، وأسقط سيجارة مشتعلة على قماش المقعد البلاستيكي فشبت النيران وكانت الأضواء مطفأة والجميع نيام لولا يقظة حارس لاحظ الحريق في بدايته وسارع بإطفاء النار. ومن حينها تقرر منع التدخين في الصالة الخاصة بالوفد الصحفي المرافق،
ولم يتوقف الوزير عن التدخين في الجو وعلى الأرض إلا بعد جائحة كورونا التي أصابته عدواها، وطرحته لأسابيع وكان قبلها كثير الرحلات والسفر لا يمكث في بعض العواصم غير بضع ساعات ليطير إلى غيرها.
RT
أذكر أننا رافقنا الوزير في زيارة عمل إلى الهند، وكانت الكوليرا متفشية فيها حينها، فقررت الخارجية عدم مبيت الوفد الوزاري في العاصمة الهندية وتقليص المهمة لبضع ساعات.
تستغرق الرحلة على متن الطائرة الخاصة ثماني ساعات ونصف ذهابا إلى نيودلهي وتسع ساعات إيابا إلى موسكو.
صدرت تعليمات بعدم تناول المأكولات أو شرب الماء خارج الطائرة، وأن تنحصر حركة الفريق الصحفي بلقاءات الوزير مع نظيره الهندي ومع رئيس الوزراء الذي التقى لافروف لنصف ساعة وجرى بعد اللقاءين عقد مؤتمر صحفي استغرق زهاء نصف ساعة، توجهنا بعدها فورا إلى المطار وكان الوقت غروبا، وأقلعت الطائرة في طريق العودة إلى موسكوـ وكنا فجر ذلك اليوم أقلعنا من مطار فنوكوفو الحكومي، وقبلها لم نذق طعما للنوم إلا لساعتين؛ فقد كان الوزير في رحلة عمل سريعة إلى إحدى الجمهوريات السوفيتية السابقة.
وصلنا موسكو في ساعة متأخرة من هزيع ليلة باردة بعد تحليق استغرق تسع ساعات. دخلت المنزل على أطراف أصابعي كي لا أوقظ النيام، وقفزت فورا في سرير النوم، لأستيقظ منتصف النهار وأحدق بعين شبه مغمضة في شاشة التلفزيون لأسمع أن لافروف يصل الليلة إلى طهران في زيارة للقاء نظيره الإيراني!
الوزير المكوكي ينام ويصحو في الطائرة المصممة بثلاثة أجنحة، يحتل الوزير مقدمتها بغرفة نوم واستحمام لوكس دون ريب.
كانت السنوات التي رافقت خلالها سيرغي لافروف ضمن الوفد الصحفي، حافلة بالنشاط الدبلوماسي مع مختلف دول العالم، فقد كانت علاقات موسكو مع الغرب ومع زعيمته واشنطن، قوية ومتنامية ولم تكن رياح الحرب البارزة قد هبت مجددا، حتى بعد العام 2014 إثر ضم شبه جزيرة القرم إلى روسيا الاتحادية، ومنها اتخذت القارة العجوز سواء بالتنسيق مع الولايات المتحدة أو بناء على رؤية خاصة، موقف الحذر والريبة مما اعتبروه نوايا إمبراطورية في توجهات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي صدم الغرب في خطابه أمام مؤتمر الأمن في ميونيخ العام 2007 موجها انتقاداً عنيفا للهيمنة الأميركية على مقدرات العالم والانقياد الأوربي لإرادة القطب الأوحد.
لاح حينها أن روسيا أدارت ظهرها تماما للغرب واستعادت شرقيتها الضائعة، لكن دبلوماسية الكرملين التي نفذها لافروف بحرفية، لم تقطع الحبال مع الشركاء الغربيين التعبير الذي كان يثير حفيظة قوميين روس يرون في تعبير "شريك" رديفا لصديق أو حتى لشريكة الحياة! فيما لافروف يستخدمه من منطلق براغماتي على قاعدة أن الدول تتشارك العالم وأن عليها أن تتفاهم عبر الحوار حتى قال بوتين مرة: "إذا لا تريدون التفاهم مع لافروف فستضطرون للحديث مع وزير الدفاع شويغو" في تعبير لا يقبل التأويل بأن السيل قد بلغ الزبى وأن الكرملين لم يعد يحتمل المزيد من تجاهل مصالحه الجيوسياسية بتمدد حلف الناتو وصولا إلى حديقة روسيا الخلفية وجر الجمهوريات السوفيتية السابقة إلى المنظومة العسكرية والسياسية للحلف، وكانت جورجيا أخطر المواقع في رقعة الشطرنج إلى الجنوب وأوكرانيا إلى الغرب وصولا إلى تشجيع دول الساحة السوفيتية السابقة على منح الولايات المتحدة قواعد في أراضيها مثل قيرغيزستان التي ما إن تخمد ثورة ملونة في عاصمتها حتى تلتهب أخرى في أطرافها، وغالبا ما تراق دماء كثيرة في الصراع على سلطة يسعى الثورالأمريكي لأن تكون معادية للدب الروسي أو في الأقل خارج مداره.
سعى لافروف عبر جولاته المنهكة لمن يرافقه إلى تثبيت الحضور الروسي في المنعطفات الدولية الحاسمة وإلى تعزيز حلقات التعاون مع دول بدأت تعيد النظر في جدوى وضع كل البيوض في السلال الغربية والأميركية.
ربما لم ينجح الوزير الروسي المتجهم كما يبدو من الخارج، في خلق محاور تناصب الغرب العداء، لتدور في الفلك الروسي، لكنه لم يخفق في المهام المكلف بها من قبل بوتين في التبشير بعالم متعدد الأقطاب تتوقع موسكو ولادته في المدى القريب المنظور، الأمر الذي يفسر الجولات المنتظمة لسيرغي لافروف إلى بلدان آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية.
لم يفكر الدبلوماسي خريج معهد العلاقات الدولية والاقتصاد العالمي، مؤلف نشيد المعهد النخبوي حارصا على حضور حفل تأسيسه كل عام؛ في بناء حركة عدم انحياز جديدة انطلاقا من المثل المأثور "لا يمكن السباحة مرتين في نفس المجرى" فلكل زمان قواعده، ويتعين على روسيا استعادة مكانتها المفقودة في عالم تنتهك واشنطن قواعد اللعب في ساحاته دون حساب.
الوزير المتجهم راوية ممتع للنكات يجيد السخرية من نظرائه في الجلسات المغلقة؛ ولا يتردد في مثل هذه الجلسات عن الإجابة على الأسئلة المحرجة. أما في المؤتمرات الصحفية المفتوحة فإنه يفصل في الحديث سعيا وراء إشباع فضول السائل وقلما تجده يغضب؛ إلا في حالات نادرة منها مرة حينوصف أحد الجالسين في قاعة مؤتمر صحفي مشترك مع وزير من دولة خليجية بأنه "مغفل" لان الصحفي "الحرك" كان يثرثر مع جاره ولم يأبه للتنبيه المتكرر؛ فخرجت الكلمة عفوية بعد ثانية من انتهاء جواب الوزير الضيف على سؤال حول الأزمة السورية حينها.
الخبثاء صوروا الحادثة العابرة على أنها رد من لافروف على كلمات الوزير الضيف، وعلى هدى عشاق نظرية المؤامرة من عرب وأعاجم، انهالت "التحليلات" مثل قناني البيرة في حانة رخيصة وصولا إلى توقع قطع العلاقات الدبلوماسية مع بلد الوزير الضيف الذي لم يسمع الكلمة وحتى لو سمعها فإنه بدون المترجم لن يفهمها ولم يكن في وارد ذهنه أن مضيفه لافروف يرى فيه "مغفلا" بعد أن سمع عبارات الإشادة بعمق العلاقات بين البلدين والخطاب الدافئ بين الوزيرين اللذين يعرفان بعضهما منذ أن كانا دبلوماسيين شابين في عاصمة القرار الدولي يدخنان على "عناد" كوفي عنان!
لم يلتصق بالوزير سيرغي لافروف لقب "مستر نو أو السيد نيت" كما أطلق الغرب بزعامة واشنطن على وزير الخارجية السوفيتيّ أندريه غروميكو، كناية عن مواقفه الدولية المتشددة. ولم يحصل على نعت "السيد موافق" فقد زاوج لافروف بين الحار والبارد، بين الخطوط الحمراء والصفراء ولم يقفز فوق الخضراء.
ومثلما حرص غروميكو على أن يجاهد في تنفيذ قرارات المكتب السياسي للحزب الشيوعي السوفيتيبصفته عضوا في أعالي هرم السلطة، فإن لافروف اجتهد لتنفيذ نهج بوتين على الساحة الدولية؛الأمر الذي يفسر حرص الرئيس الروسي على أن يستمر في المنصب لعقدين وعام واحد في حقيبة الخارجية رغم كل ما يشاع عن رغبة الدبلوماسي المخضرم في التقاعد وترك الإدمان على المنصب كما تخلص من الإدمان على التدخين بعد كورونا.
التعليقات