ويعود السبب في ذلك للأهمية الثانوية، وهامشية هذه المناطق، لهذا لا يمنح تقدم قوات أي من الجانبين في تلك المناطق سوى تأثير دعائي قصير المدى لا أكثر، يتحقق على حساب خسائر فادحة.
والوضع أسوأ بالنسبة للجانب الأوكراني فيما يخص الهجوم على منطقة كورسك، حيث كان عليه سحب أفضل وحداته من على الجبهة، بما في ذلك من الاتجاه الاستراتيجي بالقرب من بوكروفسك، حيث يتحدد مصير مجموعة الجيش الأوكراني على الضفة اليسرى من نهر الدنيبر. بمعنى أن أوكرانيا اختارت تحقيق نجاح مؤقت في كورسك، غير ذي أهمية من وجهة النظر العسكرية، ولكن بصوت جهوري من وجهة نظر الدعاية والعلاقات العامة، على حساب تسريع الكارثة الاستراتيجية في المسرح الرئيسي للعمليات العسكرية في الوقت الراهن.
ولا شك في أن السيطرة على القوات الأوكرانية في منطقة كورسك تتم على أقل تقدير بدعم ومشورة من مستشاري "الناتو"، إن لم يكن بأوامر مباشرة منهم. وتعمل القوات الأوكرانية هناك في مجموعات صغيرة تتكون من عشرات الجنود وعدة مركبات، غالبا ما تكون مركبات مدنية. أي أنهم ببساطة يقودون سياراتهم في كل الاتجاهات من موقع الاختراق، ويصلون إلى قرية ما، ويلتقطون الصور، ويحرقون بعض السيارات، ويقتلون عددا قليلا من الأشخاص، ثم يتقدمون أو يعودون إذا ما واجهوا مقاومة.
وبطبيعة الحال، فإن مثل هذه الإجراءات تتطلب معرفة في الوقت الحقيقي Realtime لمواقع جميع المجموعات المتنقلة والمعاقل الروسية، واستطلاع عبر الأقمار الصناعية على مدار الساعة، وهي قدرات يتمتع بها حلف "الناتو"، لا أوكرانيا. وبالنسبة لهجوم منطقة كورسك، تستخدم أوكرانيا أفضل الوحدات المدربة في الغرب وفقا للمعايير الغربية، والمجهزة بأحدث الأسلحة الغربية. وبالأساس تعد هذه الوحدات أفضل قوات "الناتو"، بمعنى أنه من الممكن القول إن تلك عملية للولايات المتحدة، التي تتدرب على المواجهة الحقيقية مع روسيا.
ومئات الكيلومترات المربعة التي يزعم الجيش الأوكراني الاستيلاء عليها ليست تحت سيطرته فعليا، وإنما هي منطقة عمليات قتالية في واقع الأمر، منطقة عمليات إرهاب. ولا يسيطر عليها الجيش الأوكراني، ناهيك عن قدرته على الاحتفاظ بها لفترة طويلة.
عن الأهداف
إن الهدف الرئيسي لواشنطن من هذه العملية هو خلق فقاعة علاقات عامة، وإعلان نجاح لأوكرانيا وإدارة بايدن/هاريس قبل الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة، وينبغي على القوات الأوكرانية أن تحتفظ برأس الجسر الذي تم الاستيلاء عليه حتى الانتخابات.
الهدف الثاني الذي تتقاسمه واشنطن وكييف هو زعزعة الاستقرار الداخلي في روسيا، وتقويض مواقف فلاديمير بوتين شخصيا، حيث توافق الولايات المتحدة على أي تأثير بأي نطاق كان، فهي تلعب لعبة طويلة الأمد، في حين يبدو أن زيلينسكي يأمل بشدة أن تؤدي هذه الغارة إلى الإطاحة ببوتين الآن... أو على الأقل منح أوكرانيا بعض أوراق المساومة ودفع بوتين إلى التفاوض، برغم أن هذا الأمل لا أساس له من الصحة على الإطلاق.
لكن الهدف الرئيسي لزيلينسكي هو وقف انزلاق الشعب الأوكراني إلى هاوية اليأس والاكتئاب. فلم تترك التعبئة الكاملة ونصف عام من الأخبار السيئة القادمة من الجبهة أي أثر لشعبية زيلينسكي، وأضحى الشعب الأوكراني فريسة لمزيد من الإحباط، وهو أمر خطير للغاية على النظام في كييف.
أما الهدف الأقل أهمية والأقل واقعية هو إثبات أن الوضع بأوكرانيا ليس ميئوسا منه، من أجل الحصول على مساعدات غربية إضافية.
ومع ذلك، فإن هذه العملية لا تحمل أهدافا واقعية بشكل خاص، حيث يبذل زيلينسكي كل ما في وسعه، ويحاول استغلال حتى الفرص المشكوك فيها لمواجهة الهزيمة الحتمية. لا تخيفه التكلفة المضاعفة، لأن النهاية لا تزال واحدة: هزيمة أوكرانيا.
على أية حال، وفيما يتعلق ببعض الأهداف التي تسعى أوكرانيا والولايات المتحدة إلى تحقيقها، فإن فشلهما أصبح واضحا بالفعل. بعض الأهداف لا تزال قيد التطوير. لكن، وفي الوقت نفسه، ووفقا للتقاليد الأوكرانية فإن الـ "بيريموغا" (النصر بالأوكرانية) بدأ بالفعل في التحول إلى "زرادا" (خيانة بالأوكرانية).
من جانبها لم توافق القيادة الروسية على نقل الاحتياطيات من الاتجاه الرئيسي الراهن للهجوم بالقرب من بوكروفسك، ومن الواضح أن بوتين لم يغير خططه.
يجب أن نتوقع في الأيام المقبلة أن منطقة القتال في كورسك ستتقلص بنفس السرعة التي توسعت بها في البداية، حيث ستتراجع المجموعات المتنقلة الصغيرة والنادرة بالقرب من الحدود، وسيتم تدمير تلك الوحدات الأوكرانية التي تحاول الحصول على موطئ قدم.
لقد بقي للقوات الروسية 13 كيلومترا للوصول إلى بوكروفسك، وبمعدل التقدم الحالي، يعني ذلك ما بين أسبوعين إلى ثلاثة أسابيع، أي أنه بحلول نهاية أغسطس، ستواجه أوكرانيا كارثة على الجبهة الشرقية، وستهوي الحالة النفسية للأوكرانيين مرة أخرى من سحب النشوة إلى هاوية اليأس. وستسبب رسائل الدعاية الأوكرانية من منطقة كورسك (إذا ظل الجسر موجودا حتى ذلك الوقت) على خلفية الهزيمة في بوكروفسك غضبا شديدا للأوكرانيين، وسخرية من بقية العالم. وستبدأ جميع وسائل الإعلام العالمية في مناقشة مدى غباء إنفاق الاحتياطيات في كورسك بدلا من منع وقوع كارثة في قطاعات أخرى من الجبهة.
كما أن هناك قضية أخرى هي: أي من المرشحين الرئاسيين الأمريكيين يفضله بوتين؟
إلا أن درجة خطورة هذا السؤال وزمن استجابته تعتمد هي الأخرى على هذا العامل. لكني أعتقد أن ذلك ليس له أهمية حاسمة، فأوكرانيا قد أثبتت خطرها على روسيا، وهذه المهمة تتطلب حلا جذريا، بغض النظر عن شخصية الرئيس الأمريكي.
أعتقد أن تلك هي النتائج الرئيسية لهذه لمغامرة زيلينسكي الرعناء: لن تكون هناك مفاوضات، وليس هناك فرصة للحفاظ على أوكرانيا بأي حال من الأحوال.
المحلل السياسي/ ألكسندر نازاروف