وموضوعية وحتمية قوانين تطور المجتمع تتمثل في أننا مجبرون على اتخاذ هذه الخطوة أو تلك، برغم علمنا بضررها، إذا ما كان مسار تطور المجتمع يتطلب ذلك. بمعنى أننا، ومع العلم بالانهيار المستقبلي وأسبابه، إلا أننا لا نستطيع تجنبه.
على سبيل المثال، الأزمة الاقتصادية العالمية الراهنة طبيعية وكان من السهل التنبؤ بها. فمخطط الفوز على المنافسين في الاقتصاد الرأسمالي بسيط: لنفترض أنك تمتلك مصنعا لإنتاج السيارات. ستحصل على قرض وستخفض سعر بيع منتجاتك من خلاله. وإذا لم يفعل منافسوك ذلك فستكون منتجاتهم أكثر تكلفة وأعلى سعرا، وسيتوقف بيع هذه المؤسسة وستفلس. يمكنك حينها الحصول على حصة السوق التي تم إخلاؤها، وإنتاج المزيد، ومثاليا احتكار السوق، ومن ثم تقوم برفع الأسعار وسداد الديون بأرباح إضافية.
لكن السوق ليست خالية، وهناك العديد من اللاعبين فيها، والاحتكار نادرا ما يحدث ولا يكون فوريا، لذلك فعادة ما تبدو المنافسة وكأنها سباق بين الشركات لمعرفة من يمكنه الحصول على أكبر عدد من القروض، بما يتجاوز الحد المعقول. وبطبيعة الحال يفوز من يجمع أكبر عدد من القروض، إلا أنه سينهار تحت وطأتها، لأنه سيكون من المستحيل خدمتها.
على المستوى الأعلى، يحدث نفس الشيء: قامت الولايات المتحدة بدءا من عام 1970، وبينما كانت تواجه أزمة على خلفية الصراع مع الاتحاد السوفيتي، بفكّ ارتباط الدولار بالذهب، وبدأت في زيادة الديون، في محاولة لكسب المنافسة الاقتصادية مع الاتحاد السوفيتي. نجحت الولايات المتحدة في ذلك، إلا أن هرم الديون الذي تم بناؤه لهزيمة الاتحاد السوفيتي يقتل الاقتصاد الأمريكي الآن.
كذلك نرى الشيء نفسه في الصين الآن، فيما منحت شركاتها قروضا أكثر من بقية العالم، بينما انهيارها واضح في الأفق، في غضون بضعة عقود.
باختصار، هكذا يبدو الوضع: إما أن تشارك في سباق "من يمكنه الاقتراض أكثر" غير المسؤول من أجل هزيمة المنافسين أولا ثم الموت تحت هرم الديون المنهار، أو التصرف بمسؤولية وحكمة، فلا تحصل على قروض لا يمكن سدادها وتموت كشركة قبل ذلك بكثير، قبل انهيار هرم الديون، بينما يجبرك المدينون على الخروج من المعركة في المرحلة الأولى من أجل الأسواق.
مستوى آخر: يُعرض على الأطفال في اختبار ستانفورد مارشميلو قطعة حلوى واحدة الآن، أو اثنتين إذا ما تمكن الأطفال من الصمود أمام قطعة الحلوى وعدم تناولها الآن لمدة 10 دقائق. وبمجرد مغادرة الشخص البالغ الغرفة، تختار الغالبية العظمى من الأطفال أكل قطعة حلوى واحدة ولكن الآن.
وهكذا يقع اختيار الغالبية العظمى من الكبار أيضا، غالبية البشرية، أي يختارون بين الضغط على النفس من خلال الدراسة أو تنمية المهارات أو المعرفة وبين الكسل والملذات فيختارون الحياة الأسهل أو المتعة الآن بدلا من الاستفادة من التطوير لاحقا.
مستوى آخر: الدكتاتورية أو الديمقراطية؟ الدكتاتورية تقيد استهلاك المجتمع، وغالبا لأغراض التنمية. فالديمقراطية تقوم على الشعبوية، أي على رغبة الناس، وأغلبهم كما أثبتنا، كسالى وصبيانيون، يختارون المتعة الآن بدلا من الجهد الآن من أجل منفعة مضاعفة لاحقا. وهذا ما يدفع الناس، عاجلا أو آجلا، على مستوى الأسرة والمجتمعات، بإسقاط الدكتاتورية وانتخاب الشعبويين الذين يعدون بالحد الأقصى ويخلقون الظروف لنمو الديون، هذه المرة فقط ديون الأسرة.
أي أن الدورة التي تزداد فيها الديون على كافة المستويات وتنتهي في نهاية المطاف بالانهيار الاقتصادي تبدو طبيعية ومرتبطة ارتباطا وثيقا بالطبيعة البشرية.
ويبدو أن التنمية السياسية مبرمجة لتدمير الذات في نهاية المطاف، وهو ما نراه في الغرب والذي رأيناه من قبل في الإمبراطورية الرومانية، وحتى قبل ذلك، في سدوم وعمورة، إذا كانت تؤمن بالكتاب المقدس.
هناك دورية في كل شيء. بل إن ظهور الأمم في حد ذاته، كما أثبت العالم الروسي ليف غوميليوف، هو الآخر يخضع لدورات. وسأقترح، تطويرا لأفكاره، مصطلح "عمر الميثاق الأخلاقي" أو "عمر الكود الأخلاقي" بدلا من مصطلح "الجذوة العاطفية" (Passionarity) الذي اقترحه غوميليوف. بمعنى أنه رأى في الفائض من "طاقة الحياة"، و"الجذوة العاطفية" عاملا في إنشاء أو توسيع مساحة المجموعة العرقية. بعد ذلك، وعندما يموت حاملو طاقة الحياة هذه في الحروب والثورات، يموت المجتمع العرقي تحت ضغط المجمعات العرقية الأخرى التي تمتلك قدرا أكبر من "الجذوة العاطفية".
أعتقد أن النقطة ليست في طاقة الحياة الحقيقية أو الأسطورية، ولكن في الكود الثقافي، الذي يحتوي في البداية، في مرحلة البدائية وتحت ظروف معيشية قاسية، على مطالب قاطعة للبقاء والتوسع اللامحدود. ففي البداية، وبما أن الحياة قاسية، فإن معدل الوفيات مرتفع، والتوسع الدؤوب والحيوي لا يكاد يكفي لزيادة متواضعة للغاية في تعداد هذا المجتمع.
وشباب الكود الثقافي هو عائلة قوية، وأولوية العام على الخاص، والتضحية بالنفس من أجل المجتمع وغيرها من القيم والمبادئ التي نسميها المحافظة.
مع نمو المجموعة العرقية، يتم إنشاء الدولة، ويتطور الاقتصاد ويرتفع مستوى المعيشة، ويتطلب الأمر جهدا أقل فأقل من المجتمع ومن كل فرد من أعضائه من أجل البقاء والتوسع، فالكود الثقافي "يتقدم في العمر"، وتتغير الأولويات من العام إلى الشخصي. وبمجرد أن يصبح الشخصي هو الأولوية، نتحول إلى الكسل والملذات الآن، والمواقف غير المسؤولة تجاه المستقبل باعتبارها الدافع الرئيسي والقيمة الحاضرة في هذا المجتمع. أولوية حق الإنسان في الحصول على المتعة بأي شكل من الأشكال وممارستها الآن، حتى ولو من خلال الانحراف وعلى حساب مصالح المجتمع، وهو ما نسميه الليبرالية.
من هنا نصل إلى الاستنتاج الذي لا يروقني شخصيا، ولن يحبه المحافظون.
هل من الممكن أن يصبح العجوز شابا؟ أو هل من الممكن إجبار حاملي الكود الثقافي الكهل (الليبراليين) على قبول الكود الثقافي الشاب (المحافظين)؟
أليست كلتا الظاهرتين، المحافظة والليبرالية، مرحلتا حياة الكود الثقافي للمجتمع، مراحل طبيعية، والأهم من ذلك، حتمية في الحياة الدورية للمجتمعات؟
واسمحوا لي أن أذكركم بأن كل شيء دوري، ولدنا جميعا وسنموت، وإذا كنا محظوظين نمنح الحياة لأطفالنا لاستكمال دورات حياة جديدة.
من هنا يطرح السؤال نفسه حول الصراع بين المحافظين والليبراليين والعكس؟ الرغبة الغبية لكبار السن (الليبراليين) في شيخوخة المجتمعات التقليدية دفع الشباب (المحافظين)، غير المتسامحين والصارمين في توسعهم، نحو الشيخوخة؟ أو المحاولات اليائسة والأكثر غباء في توبيخ المجتمعات التقليدية الشابة للمجتمعات الكهلة طلبا للطاقة الشبابية من كبار السن؟
ما هي المحاولات الغبية والمثيرة للشقة إذن التي يقوم بها "الفلاسفة" الافتراضيون المحافظون لدفع مجتمع الشيخوخة إلى مرحلة سابقة من التطور، وعدم فهم الكود الذي لا يتقدم إلا عندما تصبح الحياة أسهل. فمن المستحيل جعل المجتمع الليبرالي محافظا دون إعادة الظروف المعيشية إلى البدائية وظروف البقاء على قيد الحياة بحشد كل القوى الممكنة.
إن نقل الليبراليين إلى الريف لن يجعلهم محافظين حتى تجبرهم على الحرث بالخيول. فلن تظهر العائلات الكبيرة حتى يبدأ 4 من كل 5 من الأطفال بالموت في سن الطفولة. وحاول أن تفعل ذلك دون الكثير من الدماء. إن "الفيلسوف" الذي لا يفهم ذلك يجب أن يُطرد من جميع استوديوهات التلفزيون بسبب غبائه.
بالطبع، ينم كل هذا عن بعض القدرية. هل تقول بذلك يا سيد نازاروف أن النضال من أجل القيم التقليدية لا طائل منه؟ هل تقبل إذن المثليين وغير ذلك من الرذائل الأخرى للغرب المحتضر؟
إن أي مجتمع، بمجرد ولادته، سوف يموت مع مرور الوقت. بطبيعة الحال، سيموت بعد أن مر بمرحلة الـ LGBT والمخدرات وغيرها من الحقوق في الاستمتاع بأي شكل من الأشكال. والطريق من التراجع الديموغرافي إلى النمو يمر عبر الانهيار، مرورا بمرحلة مجتمع بدائي يعيش ظروفا قاسية.
ربما تكون مسألة ذوق ما إذا كان يجب محاولة إبطاء شيخوخة المجتمع أم لا. ولكن هنا سأذكرك بالمثال الأول لمصنع السيارات والقرض.
من لا يشارك في السباق إلى القبر يموت أولا. أي أن المجتمع الذي لا يشارك في السباق من التقليدية إلى الليبرالية، في النضال من حق الإنسان في الحصول على المتعة بأي شكل من الأشكال، يهلك قبل الفائز في هذا السباق، والذي بدوره يضمن هلاكه في النهاية. وقد رأينا هذا في مثال الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة. أراد الشعب السوفيتي المتعة والحياة السهلة، شأنه في ذلك شأن أي شعب آخر، هذا هو قانون الطبيعة.
ربما تكون وفاة شخص ما، وفاة مجتمع بعينه، هي الضامن الطبيعي لاستمرار الجنس البشري، يجب على الشيوخ إفساح المجال للشباب. لا جدوى من القتال ضد الليبرالية في الولايات المتحدة وأوروبا، فهم يحتضرون، وعلينا أن نتركهم يموتون. أعتقد أن أقصى ما يمكننا فعله هو فهم طبيعة الأشياء. يجب حماية الكود الثقافي الشاب، وعدم تصنع الشيخوخة. أي ألا نصبح أثرياء بسرعة كبيرة، وألا نحاول الحياة لفترة أطول، أو بشكل أسهل.. هل أنتم مستعدون؟ بدون هذا، ومع مرور الوقت، بعد عدد معين من الأجيال، سنرتدي جميعا شعرا مستعارا ونرتدي أحذية نسائية ونسير في مواكب المثليين بأعلام قوس قزح.
ستكون مجتمعاتنا أيضا حيث الغرب الآن، بعد جيل أو جيلين من وصول مجتمعاتنا إلى ذروة الرخاء والأمن.
لقد حذرتكم من البداية أن الاستنتاج لن يعجبكم. لكن بشكل عام، يبدو لي أن المستقبل مرئي بوضوح ودقة. يكفي فقط أن نفهم ببساطة في أي مرحلة نحن موجودون في عمر الكود الثقافي.
مع ذلك، أود إضافة ملعقة من التفاؤل. فموت المجتمع الليبرالي لا يعني موت أغلبية أعضائه، وإنما سيتم ببساطة استيعابهم وتكاملهم مع المجمعات الأصغر سنا (المحافظة".
المحلل السياسي ألكسندر نازاروف