فعلى خلفية مبادرة موسكو لإنشاء مركز تسوق للغاز في تركيا، تحتاج روسيا إلى دعم تركيا، وبالتالي تحصل تركيا في المقابل على فرصة للمطالبة بشيء في المقابل من موسكو، وها هي أنقرة تستفيد من هذا الوضع المميز لها بالكامل.
من ناحية أخرى، فهل يمكن أن يسمى ذلك بهزيمة لموسكو، أو بشكل أكثر دقة، ما هو بالضبط الضرر الذي لحق بروسيا من مثل ذلك التنازل، وما حجم هذا الضرر؟
في رأيي المتواضع، فإن أهمية الحبوب الأوكرانية بالنسبة للعالم مبالغ فيها، والوضع العام حول هذه القضية هو ساحة لمعركة الدعاية على كلا الجانبين أكثر منه ذو تأثير حقيقي على الوضع الغذائي العالمي.
فحصة صادرات الحبوب الأوكرانية في الاستهلاك العالمي ضئيلة، ولا يمكن أن تؤثر بشكل خطير على الأسعار، وعلى الرسم البياني التالي، يمكننا بوضوح رؤية كيف ارتفعت أسعار القمح العالمية لفترة وجيزة في أوائل الربيع، نتيجة للعبة المضاربة. ومع ذلك، فمن بداية مايو إلى بداية يوليو، أي في وقت منع الصادرات الأوكرانية، وعلى الرغم من هذا المنع، انخفضت أسعار القمح وعادت إلى مستويات ما قبل الحرب، حتى قبل إبرام صفقة الحبوب. وبعد إبرام "صفقة الحبوب" في 22 يوليو، وبدء تصدير الحبوب الأوكرانية، ارتفعت الأسعار على العكس من ذلك. أي أن تصدير الحبوب الأوكرانية، أو غيابها لا يؤثر على الأسعار العالمية على الإطلاق، وعلى أي حال، فإن استئناف الصادرات الأوكرانية لم يخفض أسعار الحبوب.
ومع ذلك، يستخدم الغرب هذه القضية لنقل المسؤولية عن التضخم العالمي من نفسه ومن طباعته لأموال غير مضمونة إلى روسيا.
بهذا الصدد، أتاحت صفقة الحبوب فرصة لتحييد الدعاية الغربية ولو على الأقل جزئيا، وخاصة بين الدول المحايدة والصديقة لروسيا، وخاصة البلدان الحساسة لأسعار الخبز، لذلك كانت الصفقة مفيدة لروسيا.
من الناحية النظرية، يمكن اعتبار إنهاء الصفقة وسيلة لحرمان أوكرانيا من الدخل من صادرات الحبوب، وبالتالي الأموال المخصصة للأسلحة. ومع ذلك، فقد تم بالفعل تصدير معظم الحبوب الأوكرانية المتراكمة، والحصول على بضع مليارات من الدولارات، وهو ما لن يغير الوضع في أوكرانيا ولا حتى في الغرب، الذي تحاربه روسيا في أوكرانيا.
هل يمكن أن يضر منع الحبوب الأوكرانية بالغرب؟
إن إيقاف إمدادات النفط والغاز عن أوروبا لمدة 4-5 أشهر الشتاء فقط هو ما يمكن أن يضمن التحول السريع للتضخم المرتفع في أوروبا إلى تضخم مفرط، وانتصار روسيا في الحرب.
وفي ظل استمرار إمدادات الطاقة، فإن محاولة إضافة 1% إلى التضخم الأوروبي عن طريق إيقاف صادرات الحبوب الأوكرانية أمر جيد، إلا أنني لا أعتقد أنه فعال للغاية، خاصة بالنظر إلى الآثار الجانبية السلبية.
لقد سمح تعليق روسيا لمشاركتها في صفقة الحبوب بلفت أنظار العالم إلى حقيقة أن جميع صادرات الحبوب الأوكرانية تقريبا تذهب إلى دول "الناتو"، وليس إلى الدول التي تعاني من الفقر والمجاعة. وكان فلاديمير بوتين قد تحدث عدة مرات خلال الأسابيع الأخيرة عن انتهاك الغرب للاتفاق، أي استمرار إعاقة تصدير الحبوب والأسمدة الروسية.
أظن أن موسكو سعت إلى إيجاد ذريعة لاستئناف المفاوضات حول هذه القضية. لهذا السبب لم يكن هناك انسحاب من الصفقة، وإنما تعليق للمشاركة فيها. وأنا شخصيا مقتنع بأنه لن تكون هناك مفاوضات، والتضخم العالمي المفرط هو أمر حتمي على أي حال، والغرب بحاجة إلى كبش فداء لإلقاء اللوم عليه، وانسحاب روسيا من الصفقة مربح للغرب أكثر من البقاء فيها.
ربما، من بين الحجج المؤيدة لاستئناف الحصار المفروض على الموانئ الأوكرانية، يمكن للمرء أن يذكر إمكانية تسليم الأسلحة عن طريق البحر. وسيكون هذا مهما بشكل خاص نظرا للإغلاق المستمر لقطاع الطاقة الأوكراني، والذي سيعقد بشكل كبير أو سيوقف تماما نقل الأسلحة بالسكك الحديدية في غضون شهر أو شهرين. ومع ذلك، ففي حالة مرافقة السفن الناقلة للأسلحة من قبل سفن "الناتو" الحربية، فمن غير المرجح أن تتدخل موسكو في ذلك، فهل يستحق الأمر التكاليف، إذا كنت ستتوقف بعد خطوتين على أي حال؟
ومع ذلك، فإن كل هذه الإيجابيات الحقيقية والمشكوك فيها تتلاشى على خلفية العيب الرئيسي.
يعمل الأنغلوساكسون باستمرار على ربط بلدان جديدة في أوروبا بالحرب ضد روسيا. وكان إعلان روسيا الانسحاب من صفقة الحبوب مجرد دعوة إلى بريطانيا وأوكرانيا والولايات المتحدة الأمريكية لتنظيم استفزاز دموي جديد، لتفجير سفينة يونانية، أو ربما بالأحرى تركية متجهة إلى بلد فقير، لنقل اليمن على سبيل المثال، الأمر الذي من شأنه أن يسمح للغرب باتهام روسيا بالتهور واستخدام الوسائل غير الإنسانية في الحرب، والتسبب في المجاعة على كوكب الأرض. وسيصبح من الصعب على الدول الصديقة والمحايدة التجارة مع روسيا.
لكن الشئ الرئيسي هو أن احتمال حدوث صدام عسكري مباشر بين روسيا وتركيا، وربما "الناتو"، سيرتفع بشكل حاد.
باختصار، ومن وجهة نظري، لم يكن الانسحاب من الصفقة فكرة جيدة للغاية، واستئناف المشاركة فيها كان القرار الصحيح وسمح بمنع مزيد من الضرر.
ومع ذلك، وعد فلاديمير بوتين بأن روسيا ستنسحب من الصفقة حال حدوث مزيد من الاستفزازات من قبل أوكرانيا، لكن سيتم السماح للسفن التركية بمواصلة نقل الحبوب.
من هذا يمكننا استنتاج أنه على الأرجح في غضون شهر تقريبا، عندما يؤدي تدمير البنية التحتية للطاقة الأوكرانية إلى شل السكك الحديدية الأوكرانية، وقد تحاول روسيا إغلاق هذا الطريق أيضا.
وقد أعلن فلاديمير بوتين عن وضع تركيا المحايد في الصراع، وربما في سياق اتصالات مغلقة، حصل من الجانب التركي على ضمانات بشأن عدم المشاركة في نقل الأسلحة إلى أوكرانيا عن طريق البحر.
على أي حال، بعد نتائج الأحداث، فسوف تتلقى تركيا الحد الأقصى من الأرباح لبعض الوقت على الأقل، وفي الواقع ستتحول أيضا إلى مركز للحبوب في منطقة البحر الأسود.
أما روسيا، فلم تحقق ما تريده بعد. في الوقت نفسه لو كنت مكانها، لفكّرت مليا في الأهداف وطرق تحقيقها.
وعلى أي حال، فالقضية في رأيي بالتأكيد لم تغلق بعد.
المحلل السياسي/ ألكسندر نازاروف