إن وجود 195 دولة في العالم الحديث هو مجرد وهم. في واقع الأمر، هناك ما بين عشرين إلى ثلاثين دولة فقط، ربما أقل، تتمتع بالسيادة، وتضم شعوبا قادرة على الحفاظ على وجود دولها لفترة طويلة.
قد يبدو حديثي غير لائق سياسيا، إلا أنه في الوقت الراهن ليس لدى جميع الأمم القدرة على إنشاء دولة أو الحفاظ عليها. هناك شعوب أنشأت دولها لقرون أو لآلاف السنين، ممن لديهم المهارات اللازمة لذلك، والتي وجدت تجسيدا لها في نسقهم الوطني الثقافي. وهناك من سقطت عليهم الدولة مصادفة، إلا أن تلك الشعوب لا تملك المهارات والقدرة على إنقاذ هذه الدول من الانهيار أمام الأزمات والتحديات المختلفة.
ولعل من أبرز الأمثلة على ذلك: أوكرانيا. كان الأوكرانيون داخل الاتحاد السوفيتي يتمتعون بمكانة مميزة (على سبيل المثال لا الحصر، كان خروشوف وبريجنيف من أوكرانيا)، إلا أنهم اعتادوا ذلك. وبعد أن حصلوا على دولتهم المستقلة، قاموا بتحطيمها إلى أشلاء، لأنه اعتيادهم على طلب الامتيازات والحصول عليها على حساب الآخرين لم يتوافق مع متطلبات دولة متعددة الجنسيات، وقعت في أيديهم في غفلة من الزمن. وبدلا من التسامح، بدأ الأوكرانيون في قمع الأقليات القومية، ما أدى إلى اندلاع حرب أهلية، ستنتهي قريبا بزوال سوء الفهم التاريخي الذي يطلق عليه اصطلاحا "أوكرانيا".
مثال آخر هو محاولات روسيا المضنية، حتى دخول قواتها إلى سوريا عام 2015، في جلب جميع أطراف الأزمة السورية إلى طاولة المفاوضات، وامتناعها عن الوقوف، دون قيد أو شرط إلى جانب الرئيس السوري، بشار الأسد، ذلك أن الروس يعرفون أن حلول الوسط وحدها هي ما يمكن أن يخلق دولة قادرة على الاستمرار لعدة قرون. لكن الرعاة الأجانب، لسوء الحظ، أجبرت المعارضة السورية على رفض أي مقترحات للحوار، وهو ما أجبر روسيا في النهاية على اتخاذ موقف أكثر صرامة، والانتقال إلى أساليب أخرى، فقدت معها المعارضة السورية فرصتها، والفضل يرجع في ذلك إلى حد كبير إلى العقلية الخليجية.
عودة إلى أرمينيا.
كما يقول المثل إن أغلى شيء في العالم هو الغباء، حيث عليك أن تدفع مقابله أغلى من أي شيء آخر.
ووقتنا الحالي هو الوقت الذي تدفع فيه الشعوب أغلى الأثمان لطفولتها السياسية.
نتذكر جميعا نائبة وزير الخارجية الأمريكية، فيكتوريا نولاند، بينما كانت توزع الحلوى على المتظاهرين في "الميدان" وسط العاصمة الأوكرانية كييف، عام 2014. كما نتذكر فتاة أوكرانية وقفت وسط "الميدان" تحمل لافتة تقول "أريد ملابس داخلية بالدانتيلا وأريد الاتحاد الأوروبي"، وهي ذات الفتاة، التي ذهبت بعد ذلك للالتحاق بعمل في روسيا، حينما لم يعد هناك عمل في أوكرانيا بعد نجاح الانقلاب.
يميل الناس إلى الاعتقاد بإمكانية حل المشكلات بسهولة، أكثر من قدرتهم على الحياة في العالم الواقعي.
وبعد انهيار الاتحاد السوفيتي مباشرة، تمكن الأرمن من انتزاع ليس فقط قره باغ من أذربيجان، وإنما تمكنوا كذلك من السيطرة على منطقة عازلة كبيرة حولها. ثم رفضت أرمينيا التسوية، معتقدة أن التحالف مع روسيا، وتأثير الجاليات الأرمينية في الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا سيضمن لأرمينيا الحفاظ على نتائج الحرب. وعلى الرغم من ذلك، حافظت روسيا على علاقات طبيعية مع أذربيجان، وطالما حثت أرمينيا على إيجاد طريقة لتسوية الأزمة معها سلميا.
كنتيجة للحرب الأخيرة في قره باغ، منيت أرمينيا بهزيمة ساحقة، وتمكنت فقط بفضل روسيا من الاحتفاظ بمعظم قره باغ، والممر المؤدي إليها، مع الالتزام بتنسيق خطوط نقل بين أذربيجان وجيبها في ناختشيفان، عبر الأراضي الأرمينية.
مع ذلك، تواصل الدولة الأرمينية والمجتمع الأرمني إنكار الواقع، وتخريب شروط معاهدة السلام، ما يدفع أذربيجان إلى استخدام وسائل الضغط.
في الوقت نفسه، يعاني المجتمع الأرمني من الانقسام، حيث يريد جزء مهم منه، إن لم يكن معظمه، ملابس داخلية بالدانتيلا ويريد الاتحاد الأوروبي. لكنهم مضطرون إلى إدراك حقيقة أن أحدا، باستثناء روسيا، لا يعجز فحسب عن تحمل عبء ضمان وجود الدولة الأرمينية، وإنما لا يريد ذلك.
وعلى الرغم من ذلك، اختار الشعب الأرمني السياسي المناهض لروسيا، والموالي للولايات المتحدة الأمريكية، نيكول باشينيان. ويواصل المجتمع الأرمني، مع ذلك، مطالبة روسيا بضمان تحقيق رغباتها الطفولية وغير الواقعية وغير المعقولة، في حين أن أرمينيا لا تفعل شيئا في المقابل لروسيا، بل تنأى باستمرار عن دعم روسيا في التصويت على قرارات هيئة الأمم المتحدة، وتشارك في تدريبات "الناتو" وتغازل الولايات المتحدة بكل قوتها.
لذلك تبدو زيارة نانسي بيلوسي، في هذه الحالة، أشبه بصب البنزين على منزل محترق. ولأنها نائبة في البرلمان عن ولاية كاليفورنيا، ذات الجالية الأرمينية القوية، فإن زيارتها تمثل 80% بدافع مجهودها الشخصي قبل الانتخابات، لضمان دعم الجالية الأرمينية في الولايات المتحدة الأمريكية، أما الـ 20% المتبقية فهي لرغبتها في إيذاء روسيا.
أدانت بيلوسي أذربيجان، وصرحت بأن روسيا لم تدافع عن أرمينيا، وأعلنت دعمها لها، على الرغم من حقيقة أن الولايات المتحدة الأمريكية لا تستطيع، ولن تقاتل من أجل أرمينيا. وبالأمس، عقد وزراء خارجية أرمينيا وأذربيجان والولايات المتحدة الأمريكية اجتماعا في نيويورك. على هذه الخلفية، اتهم أمين مجلس الأمن في أرمينيا، أرمين غريغوريان، دول منظمة معاهدة الأمن الجماعي بالفشل في الوفاء بالتزاماتها، وصرح بأن أرمينيا مستعدة للنظر في الانسحاب من منظمة معاهدة الأمن الجماعي.
بالطبع، تلك أزمة لمنظمة معاهدة الأمن الجماعي. ومع ذلك، فإن رأيي الشخصي هو أن قيمة هذه المنظمة بالنسبة لروسيا محل شك، والضرر الناجم عن الأوهام واضح وضوح الشمس.
لا يوجد أحد مثالي، فقد كان لشعب وقيادة روسيا نصيبهم من الأوهام لعقود، بما في ذلك بشأن إمكانية التنازلات والدعم في الإبقاء على الجيران في محيط التأثير الروسي. بادئ ذي بدء في أوكرانيا، وفي أرمينيا، وفي كازاخستان.
الآن، يتهاوى ما كان مستداما بسبب القصور الذاتي كإرث من عصور مضت، دون أن يكون له أساس متين. ومع ذلك، أعتقد أنه جنبا إلى جنب مع وهم منظمة معاهدة الأمن الجماعي، وفي سياق الأزمة الكبرى الوشيكة، فإن عددا من تكوينات الحالة الزائفة الاصطناعية وغير القابلة للحياة، والتي لم تكن موجودة عبر التاريخ، مثل الدول النازية كدول البلطيق وأوكرانيا، سوف تنهار. وحده الله يعلم ما سيحدث لقره باغ وأرمينيا إذا غادرت روسيا المشهد، لكن فليحاولوا.
أنا على يقين من أن الواقعية أكثر إنتاجية، وأن روسيا سوف تستفيد فحسب من إعادة تشكيل فضاء ما بعد الاتحاد السوفيتي والمنظمات الموجودة فيه.
المحلل السياسي/ ألكسندر نازاروف