من ناحية أخرى، فقد انخفض التضخم من 8.5% في يوليو إلى 8.3% في أغسطس، إلا أن ذلك حدث فقط من خلال التخفيض الكبير لسعر الوقود، في حين استمرت أسعار المواد الغذائية وسائر السلع الأخرى في الارتفاع. في الوقت نفسه، تراجعت أسعار البنزين إلى حد كبير بسبب قرار بايدن بيع ما يقرب من مليون برميل من النفط يوميا سحبا من الاحتياطيات الاستراتيجية. وعندما تتوقف المبيعات، وتبدأ حكومة الولايات المتحدة الأمريكية في تجديد الاحتياطيات مرة أخرى، سيرتفع سعر البنزين مرة أخرى، وسيندفع التضخم نحو أعلى.
بالإضافة إلى ذلك، تحاول الولايات المتحدة الأمريكية، في صراعها من أجل الهيمنة على العالم، إيقاف صادرات الطاقة الروسية، وهو ما سيؤدي إلى رفع أسعار النفط، خاصة اعتبارا من ديسمبر، عندما يدخل الحظر على النفط الروسي حيز التنفيذ. في الوقت نفسه، لا تستطيع الولايات المتحدة الاتفاق مع إيران، وذلك يؤدي فقط إلى تفاقم الوضع مع نقص محتمل في النفط.
السبب الثاني لانهيار سوق الأوراق المالية كان نية إدارة بايدن فرض عقوبات على الصين، والذي يهدد بنقص السلع على نطاق عالمي، وبعد ذلك سيزداد التضخم العالمي ليس فقط بنسب ضئيلة، وإنما سيتضاعف بعدة مرات.
السبب الثالث لانهيار البورصة هو إدراك أن عدم القدرة على وقف التضخم، تعني أن الاحتياطي الفدرالي سوف يستمر في رفع الفائدة، وهو ما سيؤدي إلى إفلاس المدينين على نطاق واسع، وتعميق الركود الاقتصادي.
تجدر الإشارة هنا إلى ان كل هذه التضحيات تذهب سدى لأنها لا تحل المشكلة.
فالاحتياطي الفدرالي يرفع سعر الفائدة بقوة تكفي لبدء أزمة الديون والركود الاقتصادي، ولكن ليس بالقدر الكافي لوقف التضخم.
علاوة على مشكلة أخرى قاتلة: أزمة الميزانية.
ففي جميع الدول الغربية، بما في ذلك الولايات المتحدة الأمريكية، يكون الدخل الذي يتلقاه المقرض بعد الحصول على الفائدة أقل من التضخم. أي أن المقرض، الذي يقرض المال للحكومة، يخسر أمواله. وكلما ارتفع مستوى التضخم فوق مستوى سعر الفائدة، كلما زادت خسائر المستثمر، وقلت رغبته في الإقراض.
وكما نرى في الرسم البياني الموضح بالصورة أعلاه، فقد ارتفع سعر الفائدة على السندات الأمريكية لأجل 10 سنوات 2.7 مرة على مدار العام، من 1.295% إلى 3.442%، وبنفس النسبة زادت نفقات الميزانية على خدمة الدين. ومع ذلك، يبلغ معدل التضخم 8.3%. يعني ذلك أن النظام المالي الأمريكي ميت، ولكي يعمل، يجب أن زيادة المعدل 3 مرات على الأقل!
توقف المستثمرون من القطاع الخاص عن إقراض الحكومة الأمريكية، وبدأت الحكومات الأجنبية، بما في ذلك حلفاء الولايات المتحدة، في تقليل استثماراتها في السندات الحكومية الأمريكية.
وبعد أن بدأ التضخم في الارتفاع، فقدت حكومة الولايات المتحدة الأمريكية والدول الغربية الأخرى القدرة على تغطية عجز الميزانية العامة من خلال جذب رأس المال الخاص والأجنبي إلى سنداتها.
لكن الآن، أصبح من المستحيل تغطية عجز الميزانية بطباعة نقود غير مغطاة، لأن طباعة النقود تسرع من التضخم، وهو ما تحاول الحكومات محاربته.
نتيجة لذلك، وعلى خلفية محاولات وقف طباعة النقود الورقية غير المغطاة، تتجه الولايات المتحدة تدريجيا نحو أزمة الميزانية.
يبلغ العجز المتوقع في الميزانية الأمريكية لهذا العام تريليون دولار. وقد زاد العجز، في أغسطس، بنسبة 29% من 171 مليار دولار إلى 220 مليار دولار خلال شهر واحد، لهذا فمن الممكن أن يتجاوز العجز النهائي التوقعات.
وعلى الرغم من أن العجز هذا العام أقل بكثير مما كان عليه قبل عام، إلا أن حكومة الولايات المتحدة الأمريكية غير قادرة على تغطية حتى هذا العجز الأصغر. ولكن قامت البنوك التي تمتلك الاحتياطي الفدرالي بتجميع احتياطيات خلال فترة التسهيل الكمي، والتي من المحتمل أن تستخدمها لشراء سندات الخزانة الأمريكية، وهي احتياطات ستكون كافية لمدة 6 أشهر تقريبا. أي أنه بعد 6 أشهر من الآن، ستواجه الولايات المتحدة أزمة في الميزانية، لا يمكن حلها دون رفع المعدل فوق التضخم، الأمر الذي سيؤدي إلى انهيار هرم الدين العالمي وقتل الاقتصاد، أو دون استئناف طباعة النقود غير المغطاة، وهو ما سيؤدي إلى تسريع التضخم.
من ناحية أخرى، لا تزال أوروبا مستمرة في طباعة النقود غير المغطاة، لذلك تفوقت أوروبا على الولايات المتحدة من حيث التضخم، وأصبح رأس المال يهرب من أوروبا، واليورو يتراجع. في الوقت نفسه، فإن تدفق رأس المال يدعم الولايات المتحدة قليلا، لكنه لا يحل المشكلة.
كذلك تدهورت شروط شركات التمويل بشكل حاد، بالنظر إلى أن ديونها ضخمة، وتتطلب تدفقا مستمرا لرأس المال الجديد لإعادة تمويل الديون القديمة. وبينما كانت الشركات، في السابق، تصدر السندات بشكل أساسي، فإن الآن، وبسبب أسعار الفائدة السلبية، لم تعد سندات الشركات مطلوبة.
لقد انخفض حجم سوق سندات الشركات بنسبة 7.5% في منتصف العام مقارنة بالعام الماضي، وأصبح يتعين على الشركات الآن اللجوء إلى البنوك للحصول على قروض عادية، وأصبح من الصعب الحصول عليها، كما أن سعر الفائدة أعلى، والأهم من هذا وذاك أن البنوك تطلب ضمانات.
وأصبحت الشركات مضطرة إلى إعطاء أسهمها للبنوك كضمان، وهو ما يخلق خطر الانهيار المصرفي العام، كما حدث في عام 2008، فحينما ينخفض سوق الأوراق المالية، تنخفض قيمة الضمان (السهم)، وتطلب البنوك من الشركات المدينة رفع قيمة الضمان ليصل للقيمة المتفق عليها. لكن الشركات، كقاعدة عامة، لا تستطيع القيام بذلك ثم تشهر إفلاسها، فيفلس دائنوها وبنوكهم بعد ذلك، ويشلّون النظام المالي.
هناك مشكلة أخرى:
وإذا كان النظام المالي قد بدأ في الانهيار عام 2008، بسبب الأزمة في قطاع قروض الرهن العقاري المشكوك في تحصيلها (Subprime)، فالآن يعمل التضخم على رفع أسعار العقارات، بينما يؤدي ارتفاع أسعار الفائدة على الرهن العقاري إلى انخفاض المبيعات.
في البداية، كان من المفترض أن يقوم الاحتياطي الفدرالي بتخفيض التضخم بإجراءين هما رفع سعر الفائدة وسحب الأموال غير المغطاة المطبوعة سابقا من التداول، إلا أنه يرفع المعدل، لكنه لا يتمكن من سحب الدولارات المتداولة بكفاءة، حيث يعد بنك الاحتياطي الفدرالي بزيادة معدل سحب الدولار من التداول إلى 95 مليار دولار شهريا بدءا من سبتمبر (وكان قد وعد بسحب 47.5 مليار دولار في الفترة من يونيو إلى سبتمبر)، لكنه يفشل حتى الآن في مواكبة معدل السحب الموعود. بحلول سبتمبر، قدر بعض الاقتصاديين الروس أن الاحتياطي الفدرالي كان قادرا على سحب 90 مليار دولار أقل مما كان مخططا له، وهو ما حدث بسبب حقيقة أن بيع الأوراق المالية المدعومة بالرهن العقاري MBS (Mortgage-backed security) سيؤدي إلى انهيار سوق العقارات وبدء أزمة مالية مثل عام 2008.
وإذا كانت البنوك المركزية الغربية، في عام 2008، قد تمكنت من منع انهيار النظام المصرفي من خلال البدء في توزيع الأموال على البنوك كجزء من التسهيل الكمي، فإنه لمنع الانهيار في الوضع الراهن، وهو مستوى أعلى بكثير من الديون والمشاكل، سيتعين طباعة المزيد من الأموال، التي سوف تدفع نحو تسارع التضخم بشكل هائل.
لذلك لم يعد هناك مخرج أمام الغرب والولايات المتحدة الأمريكية على وجه الخصوص. فلا يمكنهم التوقف عن طباعة النقود، في الوقت الذي بدونها سينهار اقتصاد الغرب، أما الاستمرار في الطباعة فسيكون الانهيار بسبب التضخم.
يتظاهر الاحتياطي الفدرالي بمحاربة التضخم. لكن ما يفعله بهذا الشأن أقل القليل، إلا أنه حتى افتعال محاربة التضخم هذا يخلق صدمة للاقتصاد، في الوقت الذي لم يعد فيه للولايات المتحدة الأمريكية أي مخرج من هذا الوضع.
المحلل السياسي/ ألكسندر نازاروف