لم يعد ذكر روسيا في خبر كهذا سوى طقس روتيني معتاد يحمل طبيعة سياسية ولا يعكس الواقع من قريب أو بعيد، فإذا هبطت كائنات فضائية من المريخ على كوكب الأرض غداً، سوف تخرج العناوين الرئيسية لوسائل الإعلام الغربية والأوكرانية: "تعرضنا لهجوم كائنات فضائية من المريخ وروسيا".
الواقع هو أن أوكرانيا تنزلق نحو أزمة أخرى من أزماتها السياسية الداخلية، التي كتبت عنها في هذا المقال السابق.
لقد كانت أوكرانيا، في وقت انهيار الاتحاد السوفيتي، أكثر الجمهوريات السوفيتية تطوراً. وبعد 30 عاماً من الاستقلال داخل أوروبا، أصبحت مولدافيا فقط هي الوحيدة الأكثر فقراً من أوكرانيا، حيث يتسبب تدهور الاقتصاد في استياء مزمن من السكان ضد الحكومة، إضافة إلى انقلابات وأعمال شغب مستمرة.
يدفع ذلك في الوقت نفسه إلى تصاعد وتيرة النهج الاستبدادي في حكم البلاد. وبعد انقلاب عام 2014، تحوّل النظام إلى إرهاب صريح ضد المعارضة، بما يتضمنه ذلك من قتل للسياسيين والصحفيين المعارضين بمساعدة النازيين الجدد، ممن تم دمجهم في هياكل الأجهزة الأمنية ووزارة الداخلية.
وصل الرئيس زيلينسكي بهذا النهج حتى ذروته المنطقية، في محاولة منه لإقامة دكتاتورية فردية، حيث يغلق مجلس الأمن القومي غير الشرعي الذي أنشأه وسائل إعلام المعارضة ويقبض على خصوم الرئيس السياسيين ويحرمهم من ممتلكاتهم.
في الأشهر الأخيرة، دخل زيلينسكي في مواجهة مع الجميع، بما في ذلك أغنى أغنياء الطبقة الأوليغارشية في البلاد، رينات أحمدوف، الذي كان حتى وقت قريب راعياً لزيلينسكي وداعماً له.
أصبح الأمر معقّداً بالنسبة لزيلينكسي، بسبب حقيقة أن فريقه لم يستطع تخزين احتياطيات من الغاز والفحم خلال الصيف، لتواجه البلاد أزمة طاقة حقيقية، سوف تتفاقم حدتها قطعاً في الشتاء.
في الوقت نفسه، يمتلك الأوليغارشي، أحمدوف، جزءاً كبيراً من محطات الطاقة الأوكرانية، التي تمتلك مخزوناً من الفحم، وإن كان هو الآخر غير كافٍ. بالإضافة إلى ذلك، يمتلك أحمدوف القدرة على شراء الفحم من الخارج. ويبدو أن أزمة الطاقة في أوكرانيا حتمية على أي حال، بدون مشاركة أحمدوف، ولكن بإمكانه، من خلال سيطرته على جزء من قطاع الطاقة، زيادة الاحتجاجات بشكل كبير.
لذلك فإن مصير الرئيس زيلينسكي في يد أحمدوف، وقد قرر زيلينسكي، مثل جرذ محاصر في ركن من الأركان، أن يبادر بالضرب أولاً.
الآن طفت هذه المعركة على السطح، بينما يقود أحمدوف معركة نحو انتخابات رئاسية مبكرة، ورداً على ذلك بإمكان زيلينسكي اعتقاله وتأميم ممتلكاته. في كلتا الحالتين، سيكون من تداعيات ذلك اندلاع أزمة داخلية أوكرانية، لن تكون فيها أوكرانيا قادرة على محاربة إقليم الدونباس، ناهيك عن روسيا.
تقع تلك الأحداث جميعاً في وقت غير مريح للغاية بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية، التي قررت لتوها إشراك أوكرانيا في مخططاتها ضد روسيا.
فوفقاً لبعض الخبراء الأمريكيين، ستتجاوز الصين الولايات المتحدة الأمريكية، من حيث حجم الاقتصاد، بحلول نهاية هذا العقد، وربما في عام 2027. أما بحلول عام 2030 تقريباً، فسوف تلحق الصين بالولايات المتحدة من حيث القوة العسكرية. ولم يتبق سوى عامين حتى يصبح ثمن الانتصار على الصين أغلى مما يمكن أن تحتمله الولايات المتحدة: أن تصبح روسيا الطرف الثالث المنتصر.
لم يتبق لدى الولايات المتحدة الأمريكية سوى عام أو اثنين لتدمير روسيا والصين باستخدام الوسائل العسكرية، وإلا فانهيارها والحرب الأهلية وانهيار البلاد سيصبح أمراً لا مفر منه.
كما كتبت سابقاً، يبدو أن واشنطن قد قررت مع من تبدأ الحرب، واختارت لتحقيق هذا الهدف استخدام قفازي أوكرانيا وبولندا، وربما حلفاء آخرين لشنّ حروب على حدود روسيا، والتي ستنجرّ إليها أوروبا. فخلال الشهر الماضي، تم تصعيد ثلاث صراعات حول روسيا بشكل مفاجئ ومتزامن: في أرمينيا وبيلاروس والدونباس، حيث يمكن جرّ موسكو بسهولة إلى أيّ أو كلّ منها، ولم يتبق سوى نقلها إلى المستوى المطلوب وربط أوروبا بها، ثم تتعامل واشنطن مع الصين.
تجبر الأزمة في أوكرانيا الولايات المتحدة الأمريكية الإسراع في تنفيذ خطط استخدام هذا البلد ضد روسيا قبل فوات الأوان، طالما لم تغرق أوكرانيا بعد في الفوضى، ولا زالت قادرة على القتال مع روسيا.
لهذه الغاية، خصص صندوق النقد الدولي، قبل أيام قليلة، وعلى وجه السرعة، 700 مليون دولار لأوكرانيا، على الرغم من فشل كييف في الامتثال لمتطلبات الصندوق، بما في ذلك مكافحة الفساد.
في الوقت نفسه، وكما نرى، تمتلئ وسائل الإعلام الغربية بالتقارير التي تتحدث عن هجوم روسي وشيك على أوكرانيا، في حملة دعائية تهدف إلى إلقاء اللوم على روسيا مقدماً في الحرب، حتى ولو كانت أوكرانيا هي البادئ بالهجوم على إقليم الدونباس.
بطبيعة الحال، ليست روسيا مهتمة بالحرب. وحتى إذا كانت روسيا ترغب في انهيار أوكرانيا، فليس على موسكو، في ظل الظروف الحالية، سوى الانتظار لا أكثر، والأوكرانيون سيفعلون كل شيء بأنفسهم. علاوة على ذلك، فليس من المفيد لروسيا أن تسمح للنظام في كييف باستخدام الصراع معه لتوحيد المجتمع ضد عدو خارجي.
وهنا يبرز عاملان يمكن أن يعوقا خطط واشنطن:
الرئيس زيلينسكي، شأنه في ذلك شأن معظم النخبة الحاكمة في البلاد، يرغبون، بالطبع ولأغراضهم الشخصية، في نشوب صراع عسكري مع روسيا، يسمح لهم بحشد المجتمع، ويعزز سلطتهم، ويبرر قمع المعارضة بالقوة. لكن هذا ممكن فقط إذا ما كان ذلك الصراع قابلاً للإدارة، وسيؤدي فقط إلى خسارة ما تبقى من مناطق دونيتسك ولوغانسك، التي تسيطر عليها الآن قوات كييف. بل إن كييف نفسها تحلم بالتخلص من المناطق الناطقة باللغة الروسية، والتي تدعو إلى التقارب مع روسيا.
لكن ما يبدو هو أن كييف قد بدأت تفهم أن واشنطن لا تريد صراعاً محدوداً، وإنما تريد حرباً بين روسيا وأوروبا على أراضي أوكرانيا. بالإضافة إلى ذلك، فإن موسكو تعطي إشارات واضحة بأن أي هجوم من قبل أوكرانيا على الدونباس سيعني بالتأكيد القضاء على أوكرانيا كدولة. لا سيما وأن هروب الولايات المتحدة الأمريكية من أفغانستان لم يضف كثيراً إلى ثقة كييف في إمكانية أن تخوض الولايات المتحدة حرباً مع روسيا من أجلها.
وهذا يفسّر إعلان مجلس الأمن القومي الأوكراني فجأة، اليوم الجمعة، أنه لا يرى أي تهديد روسي على حدود أوكرانيا، على الرغم من كل تصريحات واشنطن حول الهجوم الروسي الوشيك على أوكرانيا، وحتى بعد التصريحات التي أدلى بها الرئيس زيلينسكي نفسه في وقت سابق.
إن كييف مترددة، وتطلق تصريحات متذبذبة تتراوح بين الخيارات والمواقف المختلفة.
العامل الثاني، هو نضوب الموارد التي يمكن أن تدعم الحياة في دولة "أوكرانيا" الفاشلة. وحتى لو تدخلت السفارة الأمريكية في أوكرانيا، وجمّدت الأزمة السياسية التي بدأت، فإن هذا التجميد لن يستمر طويلاً، بدون مساعدات بمليارات الدولارات من الغرب، الذي لا يريد إنفاق الأموال على أوكرانيا.
إن أزمات الطاقة والاقتصاد في أوكرانيا سوف تستمر في الأشهر المقبلة، ومن ثم، لن يمنع نفوذ واشنطن الفصائل الأوكرانية المعارضة من معركة فاصلة، ستدفع بأوكرانيا خارج اللعبة في وقت تحتاج فيه واشنطن إليها بشدة.
لذلك يواجه الرئيس الأمريكي، جو بايدن، خياراً صعباً. حيث يتعيّن عليه إما إصدار أوامره إلى أوكرانيا بالهجوم على الدونباس في ديسمبر، بصرف النظر عن الأزمة المتفاقمة في البلاد، وإلا فلن تتمكن أوكرانيا في القريب العاجل من القتال، وعليه يمكن أن تؤدي زعزعة الاستقرار الداخلي هناك إلى تفكك الدولة الأوكرانية دون أي مشاركة روسية.
يبدو أننا مقبلون على شتاء حار هذا العام.
المحلل السياسي/ ألكسندر نازاروف