ووفقاً لتقارير إعلامية، فإن معظم اللاجئين هم من الأكراد، الذين وصلوا إلى بيلاروس جواً من إسطنبول وبيروت ودبي وطهران.
قام الجيش البولندي بضرب اللاجئين بالهراوات، وإطلاق الغاز المسيل للدموع، بينما تتم إعادة من يخترقون طريقهم إلى بولندا إلى بيلاروس. في الوقت نفسه، تقترب درجة الحرارة هذه الأيام من الصفر ليلاً، حيث يصبح قضاء الليل في الغابة مهدداً للحياة.
على خلفية تلك الأحداث، قامت سفينة المنظمة الألمانية غير الحكومية "سي آي" Sea Eye (عين البحر) بتسليم 847 مهاجر إلى ميناء تراباني الصقلي، يوم الأحد 7 نوفمبر، بعد أن تم إنقاذهم في البحر الأبيض المتوسط في الفترة من الثلاثاء إلى الخميس.
ووفقاً لأحدث البيانات الصادرة عن وزارة الداخلية الإيطالية، فقد وصل إلى البلاد عن طريق البحر منذ أول يناير الماضي أكثر من 54 ألف مهاجر. وفي عام 2020، خلال نفس الفترة الزمنية، كان هذا الرقم يقارب 30 ألف شخص، وفي عام 2019 حوالي 10 آلاف.
كما نرى، فإن تدفق المهاجرين غير الشرعيين إلى أوروبا يتزايد من جميع الاتجاهات، وهو ما يحدث منذ فترة طويلة، وبيلاروس في هذا الشأن ليست استثناءً. وبالطبع، لا يوجد أي عمل متعمّد من قبل مينسك هنا، طرق الهجرة غير الشرعية موجودة منذ سنوات. إلا أن بولندا نشرت جيشها فجأة على الحدود، وشرعت في ضرب عدة آلاف من اللاجئين بالهراوات أمام عدسات التلفزيون، بدعوى أن كل ذلك كان مؤامرة مدبّرة بين موسكو ومينسك. إنها أزمة إعلامية مشابهة لما يمكن أن يحدث لأي دولة حدودية في الاتحاد الأوروبي، يتدفق عبرها المهاجرون، ومن الممكن تنظيمها في يوم واحد، إذا ما كانت ظهرت الرغبة أو الحاجة إلى ذلك. لكن، وعلى سبيل المثال لا الحصر، لا نرى روما تسحب دباباتها إلى الموانئ، ولا تضرب اللاجئين الذين تم انتشالهم من البحر.
فلماذا إذن فعلت بولندا ذلك؟
إن العداء والكراهية العنيفة من بولندا تجاه روسيا تضرب بجذورها بعيداً في التاريخ. ففي القرنين الرابع عشر والخامس عشر، وبعد الغزو المغولي، احتلت بولندا معظم الأراضي الروسية الغربية، وأصبحت لبعض الوقت القوة الأكبر في أوروبا، بما في ذلك من حيث المساحة. بل لقد استولت بولندا، في 1610-1612، على موسكو واحتلتها، وأعلن الملك البولندي نفسه قيصراً روسياً. إلا أن الروس تمكّنوا من طرد البولنديين، وأعادوا إنشاء دولتهم. ومن ذلك الحين، بدأت بولندا تتقلص إقليمياً، وفقدت فرصة أن تصبح قوة سلافية عظمى رئيسية من جديد، وهو ما نجحت فيه روسيا. يعجز البولنديون عن تجاوز تلك اللحظة التاريخية الفارقة.
ومع ذلك، لا تزال بولندا تحلم بمكانة القوة العظمى، ولا تفوت أي فرصة واحدة لمحاولة توسيع نفوذها نحو الشرق. بدا ذلك واضحاً، على وجه الخصوص، في دور وارسو الكبير والمعروف في التنظيم والدعم الإعلامي للاحتجاجات المناهضة للحكومة، عقب الانتخابات البرلمانية في بيلاروس، عام 2020، ثم في الانقلاب الفاشل على الرئيس البيلاروسي، ألكسندر لوكاشينكو.
بعد فشل الانقلاب، لم يكن هناك سبيل سوى نحو تعزيز علاقة الحلفاء بين موسكو ومينسك، حتى وقعت مينسك وموسكو مؤخراً حزمة جديدة من الاتفاقات حول التقارب الاقتصادي المتبادل بين البلدين.
من جانبها، بدأت وارسو، كقاعدة عامة، معظم الأعمال المعادية لبيلاروس، والمناهضة لروسيا في الاتحاد الأوروبي، وبعد فشل الانقلاب واصلت جهودها في هذا الاتجاه أضعافاً مضاعفة.
على خلفية الصور التلفزيونية المروعة من الحدود البيلاروسية البولندية، تتحدث العواصم الأوروبية من جديد عن عقوبات جديدة. وبالفعل تم تشديد العقوبات ضد بيلاروس، لكن وارسو تصر كذلك على أن بوتين وراء كل هذا، بمعنى أنه يجب فرض عقوبات جديدة على روسيا هي الأخرى.
هناك عامل آخر لا يقل تأثيراً وهو الغاز الروسي و"السيل الشمالي-2".
أود التذكير في هذا المقام بأن شركة "غازبروم" الروسية توفر حوالي ثلث الحجم الإجمالي لإمدادات الغاز إلى أوروبا. تقليدياً، كان ذلك يتم في إطار عقود طويلة الأجل مرتبطة بسعر سلة من المنتجات البترولية. ومع ذلك، قررت المفوضية الأوروبية الحصول على ميزة من خلال ربط الأسعار بمضاربة البورصة، وخلق "سوق للمشتري" تهيمن عليه. إلا أن تلك النظرية أثبتت غبائها، في ظل ظروف نقص الغاز المسال من قطر والولايات المتحدة الأمريكية، وتحوله نحو آسيا، لتقع أوروبا في أزمة غاز، ارتفعت على أثرها أسعار الغاز في البورصات الأوروبية عدة مرات.
وكانت بولندا، قبل ذلك، قد رفعت دعوى قضائية على شركة "غازبروم" لعدة سنوات، من أجل فسخ الاتفاقية السابقة، طويلة الأجل، والتحوّل إلى أسعار الصرف، ونجحت في ذلك عندما قضت المحكمة الأوروبية "العادلة" بتعويضها بمبلغ 1.5 مليار دولار، ولكن بعد ذلك ارتفعت أسعار الصرف، أعلى بعدة مرات من الأسعار الروسية بموجب عقود طويلة الأجل، لتعود بولندا مرة أخرى إلى "غازبروم" بطلب لتخفيض أسعار الغاز!!
بصفة عامة، فإن أزمة الغاز الحالية في أوروبا كشفت عدم كفاءة البيروقراطية الأوروبية، بل وظهر غباء بولندا في هذا الإطار نموذجياً بأبعاد أسطورية.
ولكن، بغض النظر عن أزمة الغاز الحالية، فهناك سؤال استراتيجي حول "السيل الشمالي-2". فبحسب تصريحات "غازبروم"، أصبح الخط جاهزاً للاستخدام وتوريد الغاز إلى أوروبا. ويعني ذلك منطقياً تعزيز التعاون الروسي الألماني، وزيادة دور ألمانيا في الاتحاد الأوروبي كأكبر مركز للغاز، وهو ما يمثّل كابوساً يقض مضجع الولايات المتحدة الأمريكية وعملائها في الاتحاد الأوروبي. وعليه سيتم تحديد مصير "السيل الشمالي-2" في الأشهر المقبلة، حيث ستحتاج واشنطن بشكل عاجل افتعال أزمة روسية أوروبية كبرى لمنع تشغيل خط الأنابيب. فإدارة الرئيس بايدن لا تريد، أو بالأحرى لم تعد قادرة على فرض هذا القرار على ألمانيا، لذا أصبح من الضروري تنظيم مثل هذا القرار "من داخل الاتحاد الأوروبي نفسه".
لذلك تصبح بولندا خياراً نموذجياً كونها الوكيل الأكثر ولاءً ونشاطاً للأنجلوساكسون في الاتحاد الأوروبي. في الوقت نفسه فوارسو على استعداد للعمل ليس فقط ضد المصالح الأوروبية، بل ضد مصلحتها في بعض الأحيان، إذا ما كانت نتيجة تضحياتها مزيداً من الأذى لخصومها المكروهين. لم يكن من قبيل الصدفة أن أطلق تشرتشل على بولندا لقب "ضبع أوروبا".
وطالما استمرت واشنطن في محاولة زعزعة استقرار أوروبا، وعرقلة التقارب الروسي الألماني، فستكون بولندا حتى ذلك الحين في طليعة هذا الركب. الأمر بسيط.
المحلل السياسي/ ألكسندر نازاروف