إن أزمة الحلفاء، بشكل عام، هي توجّه عالمي. تواجه هذه الأزمة الولايات المتحدة الأمريكية، والاتحاد الأوروبي، وإيران، والمملكة العربية السعودية. وفي العموم فإن كل الدول الكبيرة التي لديها حلفاء تمرّ الآن بأزمة مماثلة.
يعود ذلك إلى عاملين هما استنفاد الموارد الداخلية للدول الصغيرة للحفاظ على استقرارها الداخلي، وكذلك مراجعة الدول الكبيرة لسياساتها في الحفاظ على حلفائها الصغار ودعمهم. وكلا السببين ناتج عن الأزمة الاقتصادية العالمية المتزايدة، والتي لا تزال بعيدة عن ذروتها، ما يعني أن أزمة الحلفاء في جميع الدول الكبرى متّجهة فقط نحو النمو.
يلعب الحلفاء بشكل متزايد دور العبء لا دور المساعد، وهنا تصبح عملية دعمهم بمثابة عاملاً لزعزعة الاستقرار الداخلي لقادة التحالفات أنفسهم، بما في ذلك الولايات المتحدة الأمريكية.
وبالنسبة لروسيا، يمكننا الحديث عن مراجعة علاقاتها ليس فقط مع حلفائها، ولكن، وقبل كل شيء، في سياساتها تجاه جميع جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق.
وعلى خلفية الموارد الداخلية المتضائلة، قرر بعض حلفاء روسيا لعب دور "تنويع الأقطاب"، وحاولوا تحسين العلاقات مع الولايات المتحدة الأمريكية بشكل حقيقي أو ظاهري من أجل إثارة الغيرة لدى روسيا، بغرض الحصول على موارد إضافية. وكانت الولايات المتحدة الأمريكية سعيدة بالانضمام إلى هذه اللعبة، ولكن ليس بالطريقة التي كانت متوقعة منها. وبمجرد أن بدأت الأنظمة المحليّة في إظهار ابتعادها عن موسكو، ودعمها لهذه البلدان، بذلت الولايات المتحدة على الفور جهوداً في استبدال هذه الأنظمة بأنظمة عميلة "دمى" بالكامل. تلا ذلك، كما رأينا، الانقلاب الناجح في أوكرانيا، ومحاولة الانقلاب في بيلاروس، وحرب أذربيجان الناجحة ضد أرمينيا.
ومع ذلك، فلا يبدو أن كل ذلك يمثّل مصدر قلقٍ كبيرٍ للكرملين. بل على العكس، ربما يكون الكرملين سعيداً بانتقال تكاليف دعم هذه الدول منه إلى الولايات المتحدة الأمريكية أو الاتحاد الأوروبي، إلا أن واشنطن وبروكسل ليستا مستعدتين لقبول مثل هذه "الهديّة".
يبدو أن روسيا مستعدة للتخلي عن الجهود المبذولة في الحفاظ على كيانات الدول في فضاء ما بعد الاتحاد السوفيتي، والتي لا يزال بعضها موجوداً فقط بفضل مساعدة روسيا، أو عدم مقاومتها للسياسات المعادية لروسيا.
وبدءاً من عام 2021، ستُحرم دول البلطيق المناهضة لروسيا علانية من عبور البضائع الروسية، وهو ما سيكون بمثابة ضربة موجعة لاقتصادات هذه الدول.
كذلك تنظر روسيا إلى الأزمة الداخلية في أرمينيا بلا مبالاة. فقد أدت محاولة رئيس الوزراء الموالي للغرب، نيكول باشينيان، للانضمام إلى المعسكر الأمريكي بالفعل إلى هزيمة أرمينيا في الحرب مع أذربيجان. وربما سيتمكن باشينيان من تصفية كيان أرمينيا كدولة إذا بقي في السلطة بما فيه الكفاية، إلا أن موسكو لم تظهر أي رغبة في التدخل.
كانت موسكو غير مبالية بالثورة في قيرغيزستان، حيث لا خيار أمام أي حكومة جديدة سوى الحفاظ على علاقات جيّدة مع روسيا كضامن لأمن واستقرار البلاد وتنميتها الاقتصادية.
لكن التحدي الأكثر خطورة هو الأزمة في بيلاروس، بينما يتزايد تأرجح الرئيس ذو الكفاءة المتواضعة بين تعهدات الولاء لموسكو، والابتزاز والاتهامات ضد روسيا، ومغازلة واشنطن.
لقد رسمت روسيا خطوطاً حمراء للتدخل الغربي، لن تتسامح معها. أما بالنسبة للبقيّة، فإن موسكو تنتظر، ويبدو أن الخط الخاص بخفض الدعم الاقتصادي لبيلاروس سوف يستمر.
في أوكرانيا، وبعد مرور 30 عاماً على انهيار الاتحاد السوفيتي، دعمت روسيا أوكرانيا بعشرات ومئات المليارات من الدولارات على شكل قروض لم تسدّدها أوكرانيا، وخفّضت أسعار الطاقة بالنسبة لها. في غضون ذلك، تتفاقم الأزمة في أوكرانيا، بينما يؤدي استنفاد الإرث الاقتصادي السوفيتي إلى زيادة السخط والاحتجاجات الشعبية. كما يتزايد التوتّر أيضاً بسبب الحظر المفروض على استخدام اللغة الروسية (اللغة التي ينطق بها نصف سكان البلاد) في التعليم والخدمات، بما في ذلك حتى المتاجر.
في ظل هذه الظروف، يتحوّل نظام الرئيس الأوكراني، فلاديمير زيلينسكي، بسرعة إلى ديكتاتورية نازية، تحاول البقاء في السلطة من خلال إغلاق قنوات التلفزيون المعارضة، وقمع المعارضة السياسية. في الوقت نفسه يحاول زيلينسكي إثارة صراع عسكري مع روسيا، بمعنى أنه يحاول ابتزاز الولايات المتحدة الأمريكية للحصول على المساعدات منها في إطار نفس "أزمة الحلفاء". إلا أن مصالح زيلينسكي وواشنطن في التحريض على حرب روسية أوكرانية تتوافق.
حتى الآن، وفي إطار اتفاقية مينسك، حاولت روسيا قدر الإمكان الحفاظ على وحدة هذه الدولة المصطنعة، وإعادة دونباس إلى أوكرانيا بشروط تطبيق الحكم الذاتي، لكن أوكرانيا ترفض تنفيذ ذلك بشكل قاطع. الآن يبدو أن استعداد روسيا يتزايد لإعادة النظر في نهجها.
تكمن صعوبة الوضع بالنسبة لروسيا هو أن الضرر بالنسبة لها ليس فقط في إعادة توجّه دول ما بعد الاتحاد السوفيتي نحو الولايات المتحدة الأمريكية، ولكن أيضاً تدمير هذه البلدان في سياق محاولات انتحارية لإعادة التوجيه.
فاقتصادات هذه الدول مرتبطة بروسيا، والحدود مشتركة والفوضى في هذه الدول تؤثّر حتماً على روسيا.
في الوقت نفسه، فإن هذه الدول بالنسبة لواشنطن، ليست أكثر من سلاح ضد موسكو، والولايات المتحدة الأمريكية مستعدة لقبول انتحار هذه الدول بسهولة، إذا كان ذلك يعني إضعاف روسيا.
في غضون ذلك، يتدهور الوضع الاقتصادي في جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق، ويزيد الوضع الداخلي من زعزعة الاستقرار. وأصبحت محاولات روسيا للحفاظ على الاستقرار والتأثير في فضاء ما بعد الاتحاد السوفيتي أشبه بمحاولة التقاط حجر يسقط من ناطحة سحاب، لذا يبدو أن موسكو قررت الانتظار حتى يسقط ذلك الحجر على الأرض، وعندها فقط سوف تلتقطه بهدوء.
أعتقد أنه لن تنجو جميع دول ما بعد الاتحاد السوفيتي، ولن تحافظ على كيانات دولها خلال الأزمة الاقتصادية العالمية القادمة. سيتعرّض كثيرون إلى الفوضى والتفكك، وبعد ذلك ربما سيتعيّن على روسيا اتخاذ بعض الخطوات لتحقيق الاستقرار في الوضع هناك، لينمو نفوذ روسيا في فضاء ما بعد الاتحاد السوفيتي بشكل كبير، ولكن في هذه المرحلة يبدو أن موسكو مستعدّة أن تتقبل بهدوء تقليص علاقاتها مع تلك الدول التي تشكك فيها.
فيما يخصّ سوريا، فمن غير المرجح أن يكون هذا النهج قابل للتطبيق معها. فالمساعدة الاقتصادية الروسية لسوريا محدودة وليست مرهقة، كما أن التعاون الاقتصادي مفيد للطرفين. كذلك يواجه خصوم روسيا وسوريا "أزمة تحالف" وانقطاع في الموارد، ما يحافظ على توازن القوى الحالي في المنطقة. والأمر الرئيسي هو أن توجه التعاون السياسي هنا مختلف. وإذا كانت حمى التفكك في فضاء ما بعد الاتحاد السوفيتي لا زالت تسري بالقصور الذاتي، ففي العلاقات الروسية السورية هناك مسار للتقارب على الجانبين. وأعتقد أن هذا التوجّه سوف يستمر في المستقبل.