لن أكرر حجج الطرفين فيما يتعلق بقضية التسميم المزعوم، وما إذا كان قد حدث أم لا، لكني سوف أركز على الجوانب السياسية لعودة نافالني.
بالنسبة لي شخصياً، صدرت شهادة الوفاة السياسية للسياسي، أليكسي نافالني، عام 2014، عندما رفض الاعتراف بالاستفتاء على عودة شبه جزيرة القرم إلى روسيا. فبالنسبة لسياسي يعمل داخل روسيا، كان ذلك بمثابة انتحار سياسي أكيد، لتعارضه بشكل قاطع مع المشاعر العامة للشعب الروسي، ولكشفه عن المصالح الخارجية الأخرى التي يخدمها نافالني.
إن ذلك مثل قناة "الحرة" الأمريكية، على سبيل المثال، حينما يمكنها التظاهر بالحرية قدر ما تشاء، لكنها لا تستطيع إجراء مقابلة مع حزب الله أو حماس مثلاً، حتى لو أدى ذلك إلى انحسار قاعدة مشاهديها، لأن ذلك أمر غير مقبول بالمرة لواشنطن.
هكذا هو الأمر بالنسبة لنافالني، الذي لم يتمكن من تجاوز الخطوط الحمراء المرسومة له في واشنطن، باعترافه باستفتاء شبه جزيرة القرم، حتى ولو كان ذلك يعني تهميشه في المشهد السياسي الروسي المحلي.
السؤال التالي ما إذا كان نافالني بالفعل سياسياً هامشياً؟ سياسياً، وعلى الرغم من محاولات الدعاية الغربية تقديمه كزعيم للمعارضة الروسية، ومنافساً رئيسياً لبوتين، إلا أن الإجابة عن هذا السؤال هي بالطبع نعم، أليسكيي نافالني سياسي هامشي. لكن صورة حجمه السياسي في الخارج، بفضل وسائل الإعلام الغربية، أكبر بكثير من حجمه الحقيقي داخل روسيا.
فمن ناحية، يعتبر نافالني قزماً سياسياً، لكن لديه بعض الإمكانات كي يكون سلاحاً ضد روسيا.
على سبيل المثال، فوفقاً لمؤسسة استطلاع الرأي "مركز ليفادا" الذي يموله الغرب، والمستقل بالكامل عن الكرملين، في ديسمبر 2020، عبّر 55% من عينة الاستطلاع عن استعدادهم للتصويت في الانتخابات الرئاسية لفلاديمير بوتين، في مقابل 2% لنافالني. ووفقاً لاستطلاع رأي آخر أجري في سبتمبر 2020، قال 55% إنهم لا يثقون في نافالني، و50% إنهم لا يوافقون على أنشطته.
وفيما يتعلق بقضية التسميم المزعومة، يعتقد 30% من الروس أن ما حدث لم يكن سوى مسرحية مفتعلة من السياسي المعارض نفسه، و19% يرون في ذلك استفزازاً متعمداً من أجهزة الاستخبارات الغربية، و15% يرون فيها محاولة من السلطة لإزاحة أليكسي نافالني. في الوقت نفسه، يثق ما يصل إلى 34% من الفئة العمرية 18-24 عاماً من عينة الاستطلاع في تورط السلطة في عملية "التسميم". وعلى خلفية أغلبية المواطنين الروس الذين لا يهمهم مصير نافالني، وجد استطلاع الرأي أن 17% فقط من المواطنين يتابعون عن كثب تطور هذه القضية.
وعليه، فمع 2% من التأييد الشعبي لنافالني في الانتخابات، ومعارضة التصويت لدى 50% من السكان، فإن نافالني، بكل تأكيد، سياسي هامشي لا أكثر، وحقيقة أن استطلاعات الرأي المناهضة له أضعافاً مضاعفة من المؤيدة ليست سوى صورة نموذجية للمعارضة الروسية الليبرالية الموالية للغرب. لقد فقد هؤلاء الأشخاص والقوى السياسية مصداقيتهم في التسعينيات من القرن الماضي، عندما كانوا في السلطة. لكن حتى فكرة حصول نافالني على 2% بائسة من بين المعارضة الليبرالية بأسرها، تدفعنا على أقل تقدير لملاحظة وجوده في المشهد السياسي.
هناك عامل آخر أيضاً.
في روسيا، نشأ جيل شاب لا يتذكر أهوال ومصاعب التسعينيات من القرن الماضي، عندما كانت البلاد على شفا الحرب الأهلية والتفكك، وكان الناس يعيشون في فقر. ولما لم يعد أمامهم نفس الخيارات بين الفظيع والجيد، أصبح كل ما ينعمون به من استقرار وازدهار وإنجازات تحققت خلال حكم الرئيس بوتين، أموراً بديهيةً لا يقدرونها حق قدرها. يحتاج هؤلاء إلى نموذج يستعدون من أجله لتدمير كل ما يملكون، حتى لو كان هذا النموذج مجرد وهم مستحيل التنفيذ على أرض الواقع.
لا شك أن هناك فساد في روسيا كما هو موجود في أي بلد آخر، ونافالني يبني مستقبله المهني على فضح هذا الفساد، لكن الجيل الأكبر يتذكر يلتسين جيداً، وكيف بدأ بنفس الطريقة، تحت شعارات رنانة، وآمال عريضة، فانتهى به المطاف بتدمير الاتحاد السوفيتي، وتوزيع ممتلكاته على المقرّبين من فريقه، وغيره من المصرفيين، الذين أصبحوا فيما بعض يمثّلون الأوليغارشية الروسية.
نافالني مغامر متعطّش للسلطة، والشباب لا يملكون خبرة كافية، ولا مناعة ضد الديماغوغيين، ويمكن التلاعب بهم بسهولة من خلال الشعارات البرّاقة. لهذا أصبح الجمهور الأساسي الذي يقدم بعض الدعم لنافالني هو من تلاميذ المدارس وطلاب الجامعات.
لهذا، فإن فرص نافالني للوصول إلى السلطة بطريقة شرعية هي صفر تماماً. ولكن دفع عدد معين من الشباب للاحتجاج، وزعزعة الاستقرار بدرجة ما، يمكن أن تعطي الغرب فرصة لفرض عقوبات جديدة على روسيا، هي ربما القدرة الوحيدة المتبقية لدى نافالني، التي يمكن استخدامها.
وهنا يبرز جانب آخر، وهو كيفية استخدام الغرب لنافالني ولأي الأغراض. وفي هذه القضية حدث تغيّر نوعي في الفترة الأخيرة بتحوّل نافالني من عميل نفوذ طويل الأمد إلى قنبلة وحيدة الاستخدام، وهو ما يمكن أن يكون نافالني نفسه يجهله حتى اللحظة.
فمن الواضح للجميع في العالم أن الولايات المتحدة الأمريكية تغوص أعمق وأعمق في أزمات قاتلة بالنسبة لها، وتحتاج من أجل تأجيل لحظة الانهيار إلى تدمير منافسيها الرئيسيين: روسيا والصين. ويمكن للجميع رؤية حرب التدمير التي يقودها الغرب ضد روسيا، لأنها كانت أول من تحدى واشنطن، والجميع يعرف عن العقوبات. وهي حرب تستباح فيها جميع الوسائل، وحرب المعلومات التي تهدف إلى زعزعة الاستقرار الداخلي للعدو لا زالت هي الساحة الرئيسية للمعركة.
يوجد منظمة تدعى "بيلينغ كات" Bellingcat، تمولها الحكومات الغربية، ووفقاً للكرملين، تعد تلك المنظمة وحدة تابعة للاستخبارات الأمريكية والبريطانية تستخدم لإضفاء الشرعية على عملياتها الإعلامية ضد روسيا.
اشتهرت هذه المنظمة سابقاً بتصريحاتها حول تورط روسيا في تدمير الطائرة الماليزية MN-17 فوق أوكرانيا بعد الانقلاب هناك.
وبغض النظر عن محتوى تحقيقات "بيلينغ كات"، حتى ولو افترضنا جدلاً أن بوتين شخصياً هو من أطلق صاروخاً من الكرملين على البوينغ الماليزية، فمن واجب أي مواطن روسي أن يرى على الأقل مصالح الولايات المتحدة الأمريكية والغرب وراء أنشطة "بيلينغ كات"، وأنها سلاح في أيدي الغرب.
وهنا يبرز نافالني جالساً على جانب المحقق الرئيسي لهذه المنظمة، خريستو غروزيف، ويمارس "تحقيقاً" في عملية "تسميمه"، والذي يستخدم لاحقاً في حملة جديدة من العقوبات الغربية ضد روسيا.
يا سيد نافالني! أنت تقول إنك سياسي روسي، أليس كذلك؟ يعني ذلك أنه من الأفضل أن تموت دفاعاً عن وطنك روسيا، إذا كنت سياسياً وطنياً بحق، لا أن تدع العدو يستخدمك لزعزعة استقرار وطنك! في النهاية، وفي ساحة الحرب، يضحّي الجنود بأرواحهم من أجل أوطانهم، حتى ولو كان ذلك في الكثير من الأحيان لا يلبّي مصالحهم الشخصية. وخلال الحرب العالمية الثانية، قاتل ملايين الروس ضد هتلر، حتى لو كان من بينهم من يكره ستالين.
بطبيعة الحال، فإن زيف معلومات "بيلينغ كات" يفاقم ذنوب نافالني، لكني أكرر أنه حتى بصرف النظر عن ذلك، هناك مواقف لا يصبح فيها ذلك مهماً على الإطلاق. فأثناء الحرب ضد بلدك، وحينما يحاول عدو قوي أن يدمر وطنك، لا يحق لك أن تقف إلى جانب العدو تحت أي ظرف من الظروف.
نافالني لا يتعاون فحسب مع العدو، بل إنه يفعل ذلك بكل طواعية وكل سرور.
لم يكن لدى نافالني أي فرصة في الوصول إلى السلطة، أما الآن فالوضع أصبح أسوأ بالنسبة له. من الواضح أن واشنطن فهمت ذلك، وقررت استخدام نافالني كصاروخ وحيد الاستخدام، يمكن التخلص منه ما دام لا زال لديه بعض التأثير.
ربما يكون ذلك هو التفسير المنطقي المعقول لقرار نافالني بالعودة إلى روسيا الآن. فهو لا يحظى بتأييد واسع مثل الخميني في زمانه، حينما كان الناس مستعدين من أجله للاشتباك مع السلطة، أما نافالني فقد باع نفسه بالتعاون "بيلينغ كات"، ولن أتفاجأ إذا ما تم القبض عليه فور وصوله بتهمة التعاون من أجهزة استخبارية أجنبية. بالإضافة إلى ذلك، فيواجه نافالني عدداً من القضايا الجنائية بالاختلاس، والتي حكم في إحداها عليه بالسجن مع وقف التنفيذ.
تعتقد المعارضة الليبرالية والغرب أن بوتين، خلافاً لما تقتضيه أحكام القانون، لن يلاحق نافالني عشية تنصيب الرئيس الأمريكي المنتخب، جو بايدن، لما يمكن أن يسببه ذلك من تشدد في الموقف الأمريكي تجاه روسيا، في الوقت الذي يمكن أن يحاول فيه نافالني تعزيز تأثير العقوبات الغربية على روسيا، وتنظيم نوع من الاحتجاجات، استناداً لتدهور الوضع الاقتصادي.
لا أعرف، ولا أفترض أنني أتوقع تصرفات الكرملين، لكن يبدو أن روسيا لم يعد لديها ما تخسره في العلاقات مع الغرب. فقد أدركت النخبة الروسية أخيراً أن الغرب لا يأخذ أسرى في تلك الحرب، لذلك لن يهمها النظر إلى واشنطن.
أعتقد أن إطلاق "صاروخ" نافالني نحو روسيا سيكون عديم القيمة.