هذا المؤشر الخطير كان يشغل أوروبا كاتحاد، ويثير قلق الدول الأوروبية الأعضاء في الحلف من جهة، ودول أوروبا الشرقية على وجه الخصوص. ولكن التقارير العقلانية كانت تؤكد أن وعود وتهديدات الحملة الانتخابية تختلف تماما عن القرارات المقبلة، وخاصة بعد أن دعا الرئيس باراك أوباما خلفه إلى ضرورة وأهمية علاقة واشنطن بالحلف.
بعد أيام وأسابيع طويلة من القلق والتوتر، أعلن الأمين العام لحلف الناتو ينس ستولتنبرغ أن الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب أكد دعم بلاده القوي للحلف. وأنه يتوقع الحفاظ على معدل الادخار لضمان قيادة الولايات المتحدة للناتو. بل وقام بطمأنة ترامب بأن الأعضاء الأوروبيين في الحلف يقومون بزيادة النفقات الدفاعية كما تطالب الولايات المتحدة. وهذا يعني أن أوروبا تنفذ التزاماتها وبالذات في ما يتعلق بزيادة النفقات، أي الأموال الضخمة التي تقتطعها أوروبا من ميزانياتها في ظل أزمات اقتصادية، ما يعني شئنا أم أبينا إمكانية ظهور مشاكل وأزمات معيشية واجتماعية في أوروبا، طالما واصلت واشنطن ضغوطها على الدول الأوروبية وابتزازها "بالخطر الروسي" و"العدوان الروسي" و"الاحتلال الروسي" الوشيك.
وبصرف النظر عن تصريحات ترامب الدعائية، أو نصائح أوباما، فمن الطبيعي والمنطقي أن يتعرض ترامب لضغوط غير مسبوقة، سواء من قبل وزارة الدفاع الامريكية والمؤسسات الصناعية-الحربية، أو الدوائر الأوروبية، التي اعتادت على الاستفادة من تمويل مكافحة "العدوان الروسي" الأسطورية. هذا الكلام قاله البروفيسور في مدرسة الاقتصاد العليا في موسكو أوليغ ماتفييتشيف لصحيفة "كومسومولسكايا برافدا" الروسية. وأوضح الخبير الروسي بأنه على يقين من إدخال تعديلات على برنامج ترامب. والمسألة تكمن فقط في مدى نجاح مجموعات النخبة الأمريكية في التحكم به، على سبيل المثال بتقديم معلومات مشوهة إلى الرئيس الجديد عن "نوايا" روسيا، وتزايد "تهديدات الكرملين".
وإذا توخينا الدقة، وتعاملنا مع الواقع بوضوح ومنهجية، فمن المستحيل أن يتم حل حلف الناتو، ومن المستحيل أن تتخلى الولايات المتحدة عن مثل هذا النسق أو الهيكل الذي يمثل إحدى أدواتها الضاربة على مستوى الجعرافيا، وعلى مستوى المجالين الجيوأمني والجيوسياسي. كما أن تركيبة الولايات المتحدة لا تتغير، سواء تحت حكم الديمقراطيين أو الجمهوريين، وبنية الحلف أيضا وعقيدته العسكرية وتوجهاته السياسية لا تتغير لأنه يخدم جملة من الدول بينها حالة من التناغم السياسي والاقتصادي والعسكري والأمني، على الرغم من وجود الكثير من الخلافات والتناقضات، ولكنها ليست خلافات أو تناقضات جوهرية. وعندما تصل هذه الخلافات والتناقضات إلى الخط الأحمر، وتبدأ بملامسة البنية والجوهر والأهداف، فمن الممكن أن نتحدث عن مستقبل الناتو، ومستقبل البنية العسكرية الرأسمالية العابرة للقارات، والتي تطمح أيضا لعسكرة الفضاء وقطبي الأرض الشمالي والجنوبي.
الكرملين لم يعد يصدق الكثير من وعود الناتو، ويطالبه دوما بأن تكون الاتفاقات عبارة عن وثائق مكتوبة وموقع عليها من الأطراف المعنية. فقد صدَّقت موسكو الكثير من وعود الحلف ووعود الولايات المتحدة في سنوات التسعينيات من القرن الماضي، عقب تفكك حلف وارسو والاتحاد السوفيتي. ولكن لا الحلف ولا راعيته الأساسية التزما بتعهداتهما، أو نفَّذا ما تم الاتفاق عليه، ولا يزال الناتو يتوسع شرقا نحو الحدود المباشرة لروسيا، ويتدخل في شؤون الدول المتاخمة لها.
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أعلن أن عملية اتخاذ القرارات في الناتو تدعو للقلق، مشيرا الى أن روسيا مضطرة لاتخاذ تدابير مضادة في هذا الصدد. بمعنى أن الأمور لم تعد تقتصر على دول أوروبا الشرقية الأعضاء في الحلف، بل امتدت إلى كل من جورجيا وأوكرانيا. وبالتالي، هناك احتمالات كثيرة ومخاوف أكثر من ظهور الولايات المتحدة أو الحلف، أو كلاهما، بالقرب من قاعدة سيفاستوبول بجمهورية القرم الروسية. ووفقا لبوتين، فإن هذا الظهور "سيكون صعبا للغاية".
لقد قال بوتين "نحن قلقون من عملية اتخاذ القرارات. أعلم كيف تتخذ القرارات عندما تصبح دول ما أعضاء في الناتو، من الصعب عليها مواجهة الضغوطات من قبل دولة كبيرة وزعيمة في الحلف كالولايات المتحدة، وآنذاك يمكن أن يظهر أي شيء هناك من عناصر الدفاع الصاروخي، والقواعد العسكرية الجديدة، والمنظومات الهجومية الجديدة إذا دعت الحاجة لذلك، فماذا علينا أن نفعل؟ يجب علينا اتخاذ تدابير جوابية، أي جعل تلك المواقع التي نرى أنها تهددنا أهدافا لأنظمتنا الصاروخية".
ومع كل ذلك، فهناك آمال كثيرة لا تزال تراود موسكو، كما تراود كل الدوائر العقلانية في الولايات المتحدة وأوروبا من أجل تقليص هوة الخلافات والتناقضات، والبحث عن معادلات وصيغ مشتركة لمواجهة التحديات والمخاطر التي تواجه الجميع، وعلى رأسها الإرهاب. وبالتالي، فترامب الآن، وفي الوقت الذي لا يزال يشكل فيه فريق إدارته، عليه أن يفكر جيدا في مسؤولية الولايات المتحدة كقوة عظمى في العالم عن أمن هذا العالم، وأن لا يستجيب لكل الضغوط والابتزازات التي لا يهمها إلا المكاسب المالية الجبارة، والسيطرة على أسواق السلاح والتحكم بأسواق النفط والغاز، والرضوخ تماما لرغبات النخب المالية والصناعية. هذه هي المعادلة المقبلة التي قد نبدأ التعامل معها بداية من يوم 20 يناير/ كانون الثاني، عندما يبدأ ترامب عمله.
أشرف الصباغ