ويمكن القول بشكل عام إن دول المنطقة دخلت منذ عام 2011 حقبة جديدة لا تشبه سابقاتها، وذلك لأن ستارة التناقضات انزاحت، وسقطت التوازنات التقليدية المختلفة بانهيار عدد من الدول، وظهرت قوى طموحة جديدة فيما تراجعت واختفت قوى سياسية كانت في الصدارة لعقود.
ويرى بعض المثقفين العرب المتفائلين أن دول الربيع العربي التي تعاني حاليا من انهيارات شاملة تمر بمرحلة تحول جذري ومخاض عسير، وهي تواجه تركة ثقيلة من "الممارسات الدكتاتورية" وتبعاتها الثقافية، وهي ستتعافى بمرور الوقت وتستعيد استقرارها، وتتعود شعوبها على قيم التعايش وأجواء الديموقراطية الجديدة، يعينها في ذلك أنه المخرج الوحيد الذي لا بديل عنه.
وبالمقابل يرى آخرون أقل تفاؤلا أن دول الربيع العربي لا تمر بمرحلة تحول طبيعية بل بمرحلة تفسخ وانحلال ناجمة عن عملية قيصرية دمرت أجهزتها المناعية وهيأتها لتكون مرجلا تلتهب فيه تناقضات طبيعية وأخرى مصطنعة، وأنها تحولت إلى ساحات مفتوحة أمام الاستنزاف الاقتصادي والتنافس الدولي والإقليمي.
من هذا المنطلق يرجح هؤلاء أن المنطقة مرشحة لمزيد من الضعف والانقسام وأنها مؤهلة لمرحلة طويلة من الفوضى، قد ينتج عنها ظهور دول جديدة واختفاء أخرى وتغير تضاريسها السياسية والسكانية بشكل حاد وغير مسبوق، بما يشبه سايكس بيكو من نوع جديد.
وإذا أمعنا النظر في اختلاف ظروف دول المنطقة في مرحلة ما بعد الاستعمار عما هي عليه الآن، وخاصة من جهة تفجر الصراعات العرقية والقبلية والطائفية وتداعياته الاقتصادية والاجتماعية الكارثية، إضافة إلى اشتداد سطوة مراكز القوى المتنافسة الناشئة في مقابل ضعف أجهزة هذه الدول فسنرى بوضوح مؤشرات على أن الصراع في دول الربيع العربي يتجه نحو التفتيت لا نحو استعادة الوحدة الوطنية والسيادة والاستقرار وما إلى دلك.
وتتعدد مستويات الصراعات الظاهرة والكامنة بدول المنطقة، أبرزها صراعات عرقية وأخرى طائفية، تتداخل بشكل متشابك ومتحرك مع صراعات قبلية وجهوية وأيديولوجية، قد تسفر في المستقبل القريب عن ظهور دولة للأكراد متكاملة الأركان في العراق وفي سوريا. وهي في العراق قائمة بالفعل ولا ينقصها إلا فك ارتباط رسمي ببغداد، وفي سوريا هي قيد التشكل في مناطق من شمال البلاد، إضافة إلى المشاريع المشابهة في دول الجوار في تركيا وإيران.
وفي المغرب العربي، يحاول الأمازيغ في ليبيا استغلال الفوضى العارمة للحصول على اعتراف رسمي بهويتهم ولغتهم وثقافتهم، ويصرون على دسترتها، وقد تنفتح شهية القوى الأمازيغية أكثر وترفع سقف مطالبها، خاصة أن أمازيغ بعض المدن الليبية قد شكلوا قوات محلية خاصة بهم، إضافة إلى وجود أصوات في صفوف أمازيغ المنطقة تنادي بإقامة كيانات وجيوب أمازيغية في ليبيا وفي الجزائر وفي المغرب. وإذا تفجر صراع من هذا النوع في مناطق غرب ليبيا حيث يتركز الأمازيغ، قد ينتشر على مساحات واسعة، ويطال أقاليم الأمازيغ في دول المغرب العربي الأخرى.
أما الصراع الطائفي بين السنة والشيعة بشكل عام فبعض ساحاته مفتوحة منذ مدة في العراق والبحرين واليمن وسوريا ولبنان، وهي مرشحة لأن تستعر أكثر وتتسع، وتتحول إلى صراع إقليمي طائفي بنتائج مدمرة.
وإضافة إلى هذه المستويات من الصراع يمكن الإشارة أيضا إلى ملامح صراع بين السلفيين والدواعش بدأت نذره في أكثر من بلد وخاصة في شرق ليبيا.
واللافت أن هذه الصراعات التي يشتد أوارها يوما بعد آخر لا تقل في حدتها وفي عنفها وتناقض أطرافها عما هي عليه في الصراع العربي الإسرائيلي، أو بالأصح الصراع الفلسطيني الإسرائيلي كما يسمى في الغالب الآن، وكل منها مرشح بأن يكون قضية مركزية لأطرافه ما يعني أن تواصل "قضية العرب المركزية" تراجعها لتفقد مكانتها التقليدية أمام صراعات داخلية صرفة يمكن وصفها لخطورتها بالقاتلة.
محمد الطاهر