ووفقا لوكالة الصحافة الأذرية (24/05/2016)، فقد لفت غوربانلي نظر محدثه إلى تدمير المساجد الأذربيجانية الواقعة في "أراضي أذربيجان المحتلة" من قبل الأرمن، واصفا هذا الأمر "بعدم الاحترام للمسلمين".
ممثل المرشد الأعلى الإيراني من جانبه، قال إن قرة باغ الجبلية هي أرض أذربيجانية، مشددا على ضرورة "إعادة المناطق المحتلة"؛ وأشار إلى "التمييز تجاه المسلمين، منوها بأهمية التضامن الإسلامي".
وكان لافتا أن قمة منظمة التعاون الإسلامي الثالثة عشرة في اسطنبول قد نددت في بيانها الختامي (15/04/2016)، و"بأشد عبارات التنديد باستمرار الهجمات التي تشنها القوات المسلحة الأرمينية (...) وتتعرض فيها المساجد للهجمات ويقتل فيها المصلون".
أما الرئيس الأذري إلهام علييف، وبعد أيام من ذلك (26/04/2016)، فقال خلال افتتاح "منتدى تحالف الحضارات العالمي السابع للأمم المتحدة" في العاصمة الأذرية: "هنا، في وسط باكو، تستطيعون رؤية كيف أننا نحافظ على تراث الشعب الأرميني، حيث رممت الكنيسة الأرمينية، في حين أن كل مساجدنا في "الأراضي المحتلة" قد هدمت".
وقبل ذلك، في السادس من شهر نيسان/أبريل الفائت، وبعد انتهاء المعارك، التي اندلعت بين جمهورية قرة باغ الأرمينية، (التي لا تعترف بها حتى أرمينيا)، وأذربيجان، نشر موقع "Azerbaijan Armed Forces" صورة تقشعر لها الأبدان لرأس مقطوع في يد عسكري أذري يعود إلى المجند الأرميني كرم سلويان، الذي ينتمي إلى طائفة الإيزيديين، التي يبلغ عددها 45 ألفا، ويعيش أبناؤها في شرق أرمينيا بعد هربهم إليها أثناء مذابح الأرمن عام 1915 في تركيا؛ حين كان العثمانيون لا يقتلون الأرمينيين فحسب، بل والإيزيديين.
وعلى الفور، وبعد جريمة قتل الأرميني الإيزيدي كرم سلويان المرعبة، راح الإيزيديون يؤكدون أنه مُثِّل به لأنه إيزيدي؛ وانطلقت حملة أرمينية-إيزيدية طائفية شعواء في وسائل الاتصال الاجتماعي ليس فقط ضد الأذريين والأتراك، بل وضد المسلمين قاطبة، بمن فيهم العرب، رغم أن الشعوب العربية بصورة عامة تميل إلى الوقوف دائما بجانب الأرمينيين؛ ما يشير بوضوح إلى الإصرار على تحويل النزاع الأرميني-الأذربيجاني حول قرة باغ إلى صراع طائفي، وإضفاء الطابع الديني عليه.
وإزاء هذه المحاولات الحثيثة، لا مفر من العودة إلى الماضي لتفسير ما يحدث في الحاضر:
فالعلاقة بين الأذربيجانيين والروس قبل العهد السوفياتي، كان تضفي دائما على أذربيجان طابعا عَلمانيا.
وكانت الجمهورية الديمقراطية الأذربيجانية، التي أُعلنت في عام 1918، أول جمهورية عَلمانية في العالم الإسلامي، وأول دولة تمنح المرأة حق الانتخاب.
أما أذربيجان في العهد السوفياتي، فكانت تتميز بتنوع ثقافي واسع، وبخاصة باكو؛ حيث كان الأرمن يعيشون جنبا إلى جنب مع اليهود في العاصمة الأذرية الأممية المسلمة - مسقط رأس عازف التشيلو وقائد الأوركسترا الروسي اليهودي الشهير ميستيسلاف روستروبوفيتش، الذي أحيا في مهرجانات بعلبك اللبنانية أمسية موسيقية كلاسيكية رائعة في عام 1997.
بيد أن الأمور بدأت بالتغير عام 1988، حين بدأت قبضة الكرملين تتراخى على الجمهوريات السوفياتية قبيل تفكك الاتحاد السوفياتي، وبدأ إقليم قرة باغ الأذربيجاني الذاتي الحكم بمطالبة موسكو بالانفصال عن جمهورية أذربيجان الاشتراكية السوفياتية.
ومنذ ذلك الحين بدأ شلال الدم الذي لا ينقطع، والمجازر التي لا تنتهي.
وقد قال الرئيس الأول والأخير للاتحاد السوفياتي ميخائيل غورباتشوف آنذاك بزئبقيته المعهودة: "يأتيني خمسة علماء ويؤكدون لي أن الحق مع الأرمن، ويأتي خمسة آخرون ويؤكدون أن الحق مع الأذريين".
أما بعد تفكك الاتحاد السوفياتي في عام 1991، فقد دعم الرئيس الروسي بوريس يلتسين ووزير دفاعه بافل غراتشوف الجانب الأرميني بغير حدود.
ويورد موقع "فيستنيك قفقازا" (27/12/2015) تأكيد الإعلامي الروسي الشهير ألكسندر نيفزوروف بأن القوات الروسية الخاصة من فرقة بسكوف شاركت عام 1992، وعلى نطاق واسع في الحرب إلى جانب الأرمن.
في هذه الإثناء، تميزت النخبة السياسية الأذربيجانية الجديدة بتطرفها القومي الشديد، وكان الرئيس الأذربيجاني الثاني أبو الفضل التشيبي (1992-1993) مثلا، يرفع شعار "الإسلام، الطورانية، الديمقراطية"، ويريد توحيد العالم التركي من حدود الصين إلى بحر الأدرياتيك.
وفتحت أذربيجان أبوابها للإرهابي السعودي الخطَّاب، وشارك الإرهابيان الشيشانيان شامل بسايف وسلمان رادويف في صيف 1992 في المعارك في قرة باغ.
ويقول تقرير لمصلحة التحقيقات للكونغرس الأمريكي في عام 2001 إن عام 1993 تميز بمشاركة واسعة للإرهابيين الأفغانيين، ولا سيما رجال زعيم "الحزب الإسلامي الأفغاني" غلب الدين حكمتيار.
ويقول موقع "موسكو نيوز" (13/09/2000) إن من بين المرتزقة، الذين شاركوا بشكل نشيط في نزاع قرة باغ، كان قدماء محاربي الحرب الأفغانية من العرب.
غير أنه، ومع اعتلاء حيدر علييف سدة الحكم في عام 1993، بدأ التضييق شيئا فشيئا على الإسلامويين، وحلت "الحيدرية الإسلامية" محل "الإسلاموية".
كما أن أذربيجان انتهجت، بعد تسلم الرئيس الحالي إلهام علييف مهماته عام 2003، سياسة علمانية متشددة، فوضعت المساجد وعلماء الدين تحت الرقابة، وكذلك توزيع الكتب الدينية، بل لقد مُنع في عام 2010 الحجاب في المدارس.
وتحول النزاع إلى نزاع جيوسياسي.
هذا، وقد تبين لمتتبعي الأحداث في جنوب القوقاز أن الوحشية البشعة لم تكن قسمة الشاب الإيزيدي البائس وحده. ومع ذلك، فإن الأمور تشير يوما بعد يوم إلى السعي لاستغلال الجريمة المروعة لموازاة ذلك لما حدث للإيزيديين في شمال العراق على يد تنظيم "داعش" الإرهابي، والتأسيس لحرب دينية في خاصرة روسيا الرخوة لا تنطفئ جذوتها.
ويوجه المتابعون للشأن الأرميني-الأذري أصابع الاتهام في الدرجة الأولى إلى تركيا، التي أعلنت عن وقوفها "حتى النهاية" ومن دون مواربة إلى جانب أذربيجان في النزاع مع أرمينيا من منطلق ديني. وتسعى لتحويله إلى نزاع طائفي، حتى ليخيَّل إلى المرء أنها ستعلن الجهاد عما قريب لتحرير الأرض السليبة!
كل ذلك، لتبرير تدخلها في شؤون القوقاز، والثأر من روسيا لتحجيمها على الساحة السورية.
ويبدو الآن أن إيران أيضا تحاول اللعب بالورقة الدينية، علها تكبح قليلا جماح جارتها الأذرية المندفعة إلى أحضان بني إسرائيل.
بيد أن ما يحتاج إليه الطرفان في الحقيقة (ما داما عاجزين حتى الآن عن التوصل إلى حل شامل للنزاع) هو عدم تحويله إلى نزاع طائفي، يجذب إليه شذاذ الآفاق المتعصبين من كل حدب وصوب.
حبيب فوعاني