ففي مثل هذا اليوم، وبعد جهد علمي جهيد، وبذل مالي كبير وسباق تكنولوجي وعقائدي محموم مع الولايات المتحدة الأمريكية، أقلعت أول مركبة فضاء مأهولة يقودها رائد الفضاء الأول يوري غاغارين سليل أسرة روسية فلاحة تحدّرت من عائلات عريقة في سموليننسك جنوب غرب روسيا.
وبعد أن أذن له المركز بصوت أبي البحوث الفضائية والصاروخية السوفيتية والروسية سيرغي كورولوف، وأصبحت "فوستوك" جاهزة للصعود نحو النجوم، وهدرت محركاتها الموثوقة لترتفع بها وتحررها من نير الجاذبية، قالها غاغارين: بالروسية، "هيّا بنا"!
بعبارة هيّا بنا، دشّن الرائد السوفيتي حقبة غزو الفضاء والانتقال ببحوث أجراها علماء البشرية على مرّ القرون، من الحسابات النظرية إلى خطوات عملية ملموسة، لم يؤمن الأولون من العلماء بها، بل دوّنوها في كتب خيالهم العلمي ومخطوطات المستحيل.
في الـ12 من أبريل/نيسان لعام 1961، أتمّ رائد الفضاء الأول دورة كاملة حول الكرة الأرضية استغرقت 108 دقائق، ليهبط بسلام في حقل زراعي جنوب مدينة اينغيلس في مقاطعة ساراتوف جنوب شرق الشطر الأوروبي من روسيا، ويطلع الكرملين من مطار قريب هناك عبر خط هاتفي مباشر على تنفيذ المهمة بنجاح، حيث قال: أرجو إبلاغ حزب وحكومة بلادنا بأنني استطعت الهبوط بنجاح، وأنا بحالة صحية جيدة ولم أصب بأي ضرر جسماني أو جروح!
بتحليقه الأول في الفضاء، مهد غاغارين الطريق للاتحاد السوفيتي وروسيا من بعده أمام منجزات وفتوحات علمية لم تقطف مثلها أمة، حيث أعقب هذا التقدم نجاحات علمية أدهشت الدنيا وأرّقت الولايات المتحدة المنافس الوحيد والند الأوحد للاتحاد السوفيتي وروسيا في غزو الفضاء واستقصائه.
فالقمر الاصطناعي الأول، أطلقه الاتحاد السوفيتي، والعربة الأولى التي سارت على سطح القمر وأرسلت إلى الأرض من هناك الصور والبيانات كانت سوفيتية، والمحطة الفضائية المأهولة الأولى، حملت أيضا العلم السوفيتي، فيما كانت أول امرأة تغزو الفضاء سوفيتية، وأطول مدة يقضيها الانسان في الفضاء كانت من نصيب رواد سوفيت وروس من بعدهم.
وفضلا عن إطلاق أجهزة التحليق البعيد والتلسكوبات الكونية، أرسل علماء الفضاء السوفيت سنة 1988 مكوك "بوران" غير المأهول إلى الفضاء ليدور حول الأرض دورتين ويعود ويهبط في الزمان والمكان المحددين له بسلام، وبقيادة "طيار آلي" أقلع به من الأرض إلى الفضاء وعاد إلى المطار المنشود في قفزة علمية وتكنولوجية لم يحقق شعب مثلها.
النجاحات الفضائية الروسية مستمرة، وأخيرها، لا آخرها بدء استخدام منظومة "غلوناس" للتوجه بواسطة الأقمار الاصطناعية وتحديد المواقع، والإفادة من تطبيقاتها العملية لخير الإنسانية، وأولها إلى جانب الأغراض العسكرية، تزويد سائر السيارات والعربات المصنوعة في روسيا بأجهزة تحديد مواقعها على امتداد روسيا الشاسعة وأوروبا لإنقاذ أصحابها وإغاثتهم في الطريق.
وضمن الفعاليات الاحتفالية التي تعمّ روسيا في الذكرى الـ55 للفتح العظيم، كشف استفتاء نظمه "المركز الروسي لاستطلاع الرأي العام"، عن أن أكثر من 70 في المئة من الروس يعارضون تقليص تمويل البرامج الفضائية، رغم الصعوبات الاقتصادية التي تعانيها البلاد في خضم أزمة الاقتصاد العالمي، وتداعيات حرب العقوبات بين الغرب وروسيا.
نتائج الاستفتاء هذه، إن دلت على شيء، فعلى إدراك الروس أهمية علوم الفضاء وبحوثه بالنسبة إلى بلادهم في مواصلة التقدم والازدهار، وتعزيز القدرات الدفاعية لروسيا التي لا يمكن الحفاظ عليها بمعزل عن الأقمار الاصطناعية التي ترصد حركة أي صاروخ أو جسم فضائي أو جوي يقترب من أجواء روسيا، لتصدر إشاراتها للأجهزة الأرضية باتخاذ الرد المناسب، للحافظ على "سماء آمنة" كما يقول الروس.
الاستفتاء أظهر كذلك، أن الرئيس فلاديمير بوتين حينما أولى الجيش والفضاء والعلوم العسكرية اهتماما منقطع النظير، إنما استند في قراراته هذه إلى طموحات شعبه وإرادته، ولم يكن مخطئا في ترتيب أولوياته كما اعتبر الرئيس الأمريكي باراك أوباما مؤخرا الذي أكد أن بوتين اهتم بتعزيز جيش بلاده، عوضا عن الاهتمام بالاقتصاد.
الملفت في انتقاد الرئيس الأمريكي لنهج نظيره الروسي، أنه تجاهل متعمدا، أو عن غير تحليل، حقيقة بسيطة في هذا التقييم، تفيد بأنه لا يمكن لروسيا تعزيز جيشها، وتمويل برامج علومها العسكرية والفضائية بمعزل عن اقتصاد متين، وموارد لا تنضب، استمرارا لنهج أدركت موسكو أهميته منذ تحليق غاغارين الأول.
فبعد التحليق الأول، وترسيخا لأهمية الفضاء، أغدقت البلاد على جميع العاملين في حقل العلوم الفضائية والعسكرية، وكرّمت يوري غاغارين وكافأته بأفخر الجوائز المعنوية والمادية، وبينها جعل منزل أبويه الذي ولد وترعرع فيه متحفا ترعاه الدولة، كما أطلقت اسمه على عدد لا يحصى من المدن والمواقع والصروح في روسيا والاتحاد السوفيتي.
غاغارين، حظي كذلك بشهرة دولية واسعة، جعلته نجما لامعا كتبت عنه الصحف والمجلات، واستقبله الساسة والزعماء في العالم، حتى صار اسمه رمزا يعبّر عن نجاحات الاتحاد السوفيتي وروسيا من بعده.
نجاحات غاغارين وأداؤه المتميز في خدمة الوطن، استمرت حتى اختطفه الموت في حادث مأساوي في الـ27 مارس/آذار 1968، لدى تحطم مقاتلة "ميغ-15" كان يقودها في تحليق تدريبي، ليفجع الاتحاد السوفيتي والعالم بنبأ مصرعه، حيث كان من سخرية القدر أن يلقى حتفه في حادث طيران عادي، بعد أن ارتفع إلى الفضاء وعاد بسلام، في أكبر مغامرة عرفها العلم والإنسانية.
صفوان أبو حلا