لم تكن مفاجأة أن ينهار الائتلاف الحاكم في البرلمان الأوكراني بعد خسارته أغلبية الأصوات. فمن الواضح أن رئيس الحكومة أرسيني ياتسنيوك يخطط لما هو أبعد من ذلك. وإذا شئنا الدقة، فرئيس الحكومة الموالي تماما للغرب والمعادي جدا لروسيا، أعلن أكثر من مرة أن الرئيس بيترو بوروشينكو ضعيف ولا يستطيع أن يحقق طموحات الصقور، سواء القوميين المتطرفين أو عناصر "القطاع الأيمن" المتطرف والنازيين الجدد. بل وذهب مباشرة إلى مطالبة بوروشينكو بترك منصبه في حال لم تكن لديه القدرة على تنفيذ توجهات مجموعة الليبراليين الجدد الذين يحكمون في كييف حاليا. وشدد على أن هناك من يستطيع أن ينفذ هذه التوجهات.
لقد انسحبت كتلة "ساموبوموش" الأوكرانية من الائتلاف الحاكم في البرلمان. وقال رئيس الكتلة أوليغ بيريزيوك إن كافة ممثلي الحزب استقالوا من الحكومة ومن رئاسة البرلمان، لأن "رئاسة الحزب توصلت إلى عدم إمكانية تواجد الكتلة في اتحاد مع قوى سياسية تشارك في انقلاب لصالح طواغيت المال في البرلمان".
وأوضح أن "الشعب الأوكراني أصبح شاهدا على مؤامرة صريحة بين القيادة العليا في الدولة من جهة، وطواغيت المال والقوى الخاضعة لسيطرتهم في البرلمان من جهة أخرى، إذ جرت محاولة لتكريس السلطة من قبل المسؤولين الفاسدين ورجال المال في أوكرانيا".
هذه التصريحات كافية لتوضيح درجة الفساد السياسي التي وصلت إليها سلطات كييف. ومع ذلك، فليس من المهم لرئيس الحكومة أرسيني ياتسنيوك معالجة الفساد أو إصلاح الاقتصاد الأوكراني، أو حل الأزمات السياسية التي تعصف بمصير أوكرانيا. بل الأهم بالنسبة له هو إحكام قبضة الليبراليين الجدد على أوكرانيا من جهة، وتنفيذ أجندة الولايات المتحدة وحلف الناتو ضد روسيا. أي أن معاداة روسيا هي الهدف والوسيلة في آن واحد.
إن أوكرانيا تقف الآن أمام مفترق طرق قد يساهم في المزيد من خلط الأوراق. إذ أصبح من الواضح تماما أن اتحاد السلطة، الذي دخل فيه جزء من كتلة ائتلاف "نارودني فرونت" التابع للرئيس بيترو بوروشينكو، وفلول حزب الأقاليم الخاضع لسيطرة عدد من طواغيت المال، نزع الشرعية عن الحكومة الأوكرانية، وأصبح يشكل اعتداء على نظام الدولة.
وعلى الرغم من هذا النظام البرلماني الهش، يواصل رئيس الحكومة ياتسنيوك مشاوراته مع "الحزب الراديكالي"، ويتلاعب بالتصريحات السياسية التي تدور حول إمكانية إجراء مشاورات مع ائتلاف الرئيس مرة أخرى. وبالتالي، فأرسيني ياتسنيوك لديه أوراق ستظهر تباعا لإثارة المزيد من الفوضى في المشهد السياسي الأوكراني بهدف إظهار الأوراق اللازمة في الوقت المناسب كعامل إنقاذ للبرلمان وللحياة السياسية. كل ذلك يجري، بينما الرئيس الأوكراني بوروشينكو يواصل أجندة أخرى لا تختلف كثيرا عن أجندة ياتسينيوك إلا في الآليات والمدى الزمني. فياتسنيوك متعجل ويحاول فرض حلول سريعة، بينما بوروشينكو رجل الأعمال السابق (والحالي أيضا) يتعامل مع أوكرانيا باعتبارها إحدى شركاته التي تتلقى الدعم من الخارج.
إن الاختلاف على الآليات بين الرئيس الأوكراني ورئيس حكومته، دفع بالأول إلى مطالبة الثاني بالاستقالة. ولكن ياتسنيوك رفض رفضا قاطعا. بل ورأينا المعارك التي شارك فيها رئيس الحكومة وأتباعه في البرلمان والتي تشبه حلقات الملاكمة والمصارعة الحرة بداخل البرلمان نفسه. وهو الزمر الذي يؤكد أن ياتسنيوك لن يقدم استقالته، ولن يقوم بحل الحكومة إلا إذا كان يضمن 100% عودته منتصرا مع أتباعه من الراديكاليين والقوميين المتطرفين لمواصلة "الحرب" ضد روسيا.
أوكرانيا الآن أمام وضع قانوني وسياسي متناقض، لأن البرلمان حسب القانون لا يمكنه العودة إلى سحب الثقة عن الحكومة إلا في دورته المقبلة. وبالتالي، يرى رئيس كتلة "ائتلاف بيترو بوروشينكو" يوري لوتسينكو أن مجلس الوزراء الأوكراني الحالي فقد دعم البرلمان رغم فشل سحب الثقة منه رسميا، وأن الحكومة لن تتمكن من تمرير قوانينها في البرلمان. من جهة أخرى، أمام البرلمان شهر واحد فقط لتشكيل ائتلاف جديد، وإلا سيتم حله وإجراء انتخابات برلمانية جديدة.
هكذا يتشكل المشهد السياسي والبرلماني في أوكرانيا التي تعاني من أزمات داخلية تكاد تعصف بها. ورغم كل ذلك لا يتوقف المسؤولون الأمريكيون والأطلسيون عن الزيارات المكوكية لترتيب البيت الأوكراني ضد الجار الروسي. ولا تتوقف وعود واشنطن والاتحاد الأوروبي بشأن المساعدات المالية والدعم العسكري والتلويح بتجهيز أوكرانيا للانضمام إلى حلف الناتو. ولا تتوقف الأمور عند هذا الحد، فمجموعة الليبراليين الجدد لا يتوقفون عن إثارة الفوضى، سواء في المناطق التابعة لهم، أو في أقاليم شرق أوكرانيا التي تعارض سياساتهم التمييزية. بل وتمتد نشاطات ياتسنيوك وأتباعه إلى مناطق "غير آمنة". إذ استقبل مؤخرا رئيس الوزراء التركي أحمد داود أوغلو وأدلى بتصريحات غير مسؤولة تتعلق بالأمن الإقليمي، وصب الزيت على النار في شبه جزيرة القرم الروسية. وهو الأمر الذي يتماشى مع توجهات تركيا في الفترة الأخيرة ومشاركتها في دق الأسافين، سواء في البحر الأسود، وبالذات في المناطق التي تعرف جيدا أنها تخص روسيا، وتعتبر جزء من أراضيها، أو في الأزمة السورية وحولها والتعاون مع التنظيمات الإرهابية في الشرق الأوسط.
أشرف الصباغ