اعتمدت الولايات الشمالية الاتحادية في الحرب الأهلية الأمريكية (1861-1865) خطة أفعى "الأناكوندا"، التي تمثلت بالخنق الهادف والبطيء لاقتصاد العدو لكسب الحرب بأقل قدر ممكن من إراقة الدماء. ولذا قامت بالالتفاف على الولايات الجنوبية وحاصرتها من البر والبحر لخنقها تدريجيا واقتطاع المناطق المهمة منها، الأمر الذي أضعف اقتصاد الولايات الكونفدرالية وأجبرها على الاستسلام.
ويشير خبراء غربيون إلى أن استخدام العقوبات هو أحد وجوه خطة "الأناكوندا" الجديدة، التي تطبقها واشنطن لخنق روسيا ومحاولة تقطيعها. وقد تحدث عن ذلك أيضا اقتصاديون روس بارزون مثل يوري بولديريف وستيبان ديمورا وميخائيل خازن.
ويرى هؤلاء أن الاهتمام الغربي الرئيس بروسيا إنما هو بسبب موارد الطاقة فيها، وبخاصة في سيبيريا والشرق الأقصى الروسي، منذ أن خططت الولايات المتحدة لمد خط غاز من الاتحاد السوفياتي عبر ألاسكا في الستينيات، الأمر، الذي رفضه الزعيم السوفياتي ليونيد بريجنيف.
وبعد تفكك الاتحاد السوفياتي أبدت واشنطن اهتمامها من جديد بموارد الطاقة الروسية، ووقعت في عام 1995 مع إدارة الرئيس الروسي السابق بوريس يلتسين اتفاقيات حول تقاسم الإنتاج، أصبح بموجبها 264 حقلا للغاز والنفط ومناجم للنحاس وغيرها تحت الإشراف الأجنبي، ولا تنال روسيا وفق هذه الاتفاقيات حصتها من الربح إلا بعد تعويض المستثمرين نفقاتهم.
وقد حارب بوتين منذ اعتلائه سدة السلطة عام 2000 هذه الاتفاقيات، وألقى بعراب الجزء الأكبر منها الأوليغارشي اليهودي ميخائيل خودوركوفسكي في السجن عام 2003. وفي عام 2004، الذي شهد انضمام دول البلطيق إلى حلف شمال الأطلسي، لم يبق سوى اتفاقيتين ساريتي المفعول هما "ساخالين-1" وساخالين-2". ومنذ ذلك الحين بدأت مواجهة موسكو الفعلية مع الغرب.
ولتطبيق خطة "أناكوندا" الجديدة لمحاصرة روسيا بطوق من الدول المعادية المحتملة، أراد حلف الناتو ضم جورجيا وأوكرانيا. بيد أن الحرب الروسية مع جورجيا عام 2008، التي أجبرت الناتو على تأجيل ضم جورجيا وأوكرانيا إليه، لم تجعله يتخلى عن خططه.
وإزاء رفض فيكتور يانوكوفيتش عام 2014 سياسة الأحلاف، دبرت واشنطن انقلابا على هذا الرئيس الأوكراني الشرعي لتسريع انضمام بلاده إلى الحلف.
وكان أول عمل قام به المسؤولون الأوكرانيون الجدد هو منع اللغة الروسية، التي تعد لغة 40 في المئة من مواطني البلاد. وسرعان ما اندلعت الاشتباكات بين الناطقين باللغة بالروسية، الذين ساندتهم موسكو، مع قوات كييف في شرق أوكرانيا، ما أعاق المخططات الأمريكية المستقبلية السرية لاستخراج النفط الصخري في هذه المنطقة.
وفي الوقت نفسه، استجابت روسيا إلى رغبة غالبية أبناء شبه جزيرة القرم بالانضمام إليها، غير آبهة بمعارضة واشنطن، التي لم يبق أمامها إلا اللجوء إلى سلاح العقوبات، التي فرضتها، وأجبرت أوروبا على فرضها على روسيا في آذار/مارس من العام الفائت 2014.
وفي حين أن الجميع يتذكرون هذه العقوبات، فإنهم لا يعيرون اهتماما لقانون "HR 5859"، الذي وقعه الرئيس الأمريكي باراك أوباما في ( 19 ديسمبر/كانون الأول 2014)، تحت شعار دعم استقلال أوكرانيا في مجال الطاقة.
فوفقا لهذا القانون، "من الضروري خصخصة كل القطاعات المرتبطة باستخراج ونقل موارد الطاقة، وكذلك قطاع موارد الطاقة المتجددة".
ولتطبيق هذه الاستراتيجية، يخطَّط لاستخدام نفوذ البنك الدولي وبنك الاستثمار الأوروبي فضلا عن الاستثمارات الخاصة. ويعول الأمريكيون لتنفيذ هذه الخطة على موظفة وزارة الخارجية الأمريكية السابقة وزيرة مالية أوكرانيا الحالية ناتاليا ياريسكو.
وكانت مجلة "الأخبار الاقتصادية الألمانية" قد كتبت في حينه (20 ديسمبر/كانون الأول 2014) أن الرئيس الأمريكي "وقَّع قانونا لحماية الأمريكيين وإعطائهم صلاحيات واسعة في أوكرانيا."، وأن هذا القانون "يدعم خصخصة قطاع الطاقة، وتمويل حكومة الولايات المتحدة وسائل الإعلام الأوكرانية. والهدف – أن تصبح (أوكرانيا) عضوا في الناتو..."
وليس مصادفة انضمام هانتر بايدن ابن جو بايدن نائب الرئيس الأمريكي إلى مجلس إدارة شركة "بوريسما" (أكبر شركات الغاز الأوكرانية الخاصة) العام الماضي، والذي أصبح مشتبها به مطلع هذا العام في عملية غسل أموال، أدت إلى حجز 23 مليون دولار من أموال الشركة في لندن.
وبالعودة إلى العقوبات، يؤكد الخبراء الغربيون أن أسلوب عمل العقوبات بسيط ومجرب – وروسيا ليست الأولى ولن تكون الأخيرة. وقد جُرب هذا الأسلوب مع كوبا وإيران والاتحاد السوفياتي وكوريا الشمالية.
غير أنه يحق لنا هنا طرح سؤال هنا عن مدى فعالية هذه العقوبات مع إيران وكوبا ومع روسيا، ولا سيما أن الولايات المتحدة تخاطر بفرضها العقوبات على الأخيرة، التي تنظر إليها كخطوة عدائية.
حبيب فوعاني