ملخص عن دراسة موسعة بقلم د. أيمن أبو الشعر
تعتبر ملحمة الكسندر بلوك (الاثنا عشر) واحدة من أهم الأعمال الشعرية الشاملة التي تحاول رصد أجواء مرحلة السنوات الأولى من الثورة . وقد اعتمد الشاعر تعدد الأصوات ، وتداخل السرد والحوار لإظهار مدى العفوية الجماهيرية والاندفاع المشاعري، بما في ذلك عبر الفوضى والأخطاء والارتجال في المسائل الكبرى والهموم اليومية، عاكسا أجواء مرحلة جديدة لم تتخمر تماما وماض لم يتداع نهائيا.
يمزج بلوك في هذه القصيدة بين الرومانتيكية وبعض ظلال الواقعية (الاشتراكية) التي لم تتبلور ملامحها بعد، وبالتالي يستخدم رموزا لمرموزات مباشرة واقعية، وأخرى لمرموزات شمولية إنسانية ، واستطاع بلوك أن يرسم لوحة بانورامية منعكسة عن الواقع الحياتي الحقيقي، ويستشرف بشكل شفيف آفاق المستقبل بمهارة في لحمة هذا العمل ، فالزمان والمكان واقعيان يكادان يتجسدان في رسم ليالي بطرسبورغ في تلك المرحة، وهي في الوقت نفسه تستنطق هذا التضاد الذي يعني الكثير في الواقع الذي بدأ يتغير ، ولا بد من التنويه بمدى رهافة اختيار الرمز الأول وهو (الاثنا عشر) فحواريو السيد المسيح اثنا عشر حواريا، وهو أيضا انعكاس عن واقع مجسد في دوريات الحرس الأحمر التي كانت مؤلفة من اثني عشر حارسا أحمر، ونميل إلى الاعتقاد بأن الرمز الأخير الذي تنتهي به الملحمة ( اليسوع ) ما هو إلا رمز للمستقبل الذي يتمناه بلوك بحيث يتمسك هذا التغيير الجامح بالحس الإنساني المتسامح . وتبدأ الملحمة برصد واقع معاش له خلفياته العميقة كما سنرى يبدأ بلوك ملحمته برسم لوحة حركية لمخاض الواقع في بيوتر بورغ:
ليلٌ أسودْ
ثلجٌ أبيضْ
ريحٌ ...ريحْ
ما من إنسانٍ تحمِلُهُ القدمان
ريحٌ ... ريحْ
في أصقاعِ اللهِ بكلِ مكان
.. بينَ بِناءٍ وعمارة
ينشُّد الحبلْ
يحمُِل لافتةً بِعِبارةْ
لمجالِسنا التأسيسيةِ كلُّ السُلطة
تنتحبُ عجوزٌ تبكي
لم تقدر أن تفهمَ أبدا
ماذا يعني هذا ..؟
ولماذا هذي الأقماشُ أتُهدر بَددا ..؟
كم من سروالٍ كانت تكفي للشبان
وهمو الآن
كم منهم حافي القدمينْ
كم منهم عاري الأبدانْ
يبدو واضحا أن الثلج والعاصفة والليل الأسود والريح والتعثر ليست مجرد رصد لأجواء الطبيعة وحسب، بل هي العناصر الفنية التي ستتصاعد ملتفة ومتداخلة مع تصاعد الحدث حيث تبدأ الملحمة من المرحلة التي وصل فيها التناقض قمته، والثورة كانت لا تزال تتصارع مع الذين ما زالوا متداخلين في جسد المجتمع برواسبه حتى أن الريح تبدو للبعض ماكرة لعينة تقتلع الناس، وتبدو مرحة وادعة لآخرين، بل وهناك الناس العاديون الذين لا يفهمون ما يجري، وتمثل العجوز جانبا منهم فهي تتأسى على القماش الذي يمكن أن تخاط منه السراويل للعريانين ولا يعنيها الشعار أبدا، وبالمقابل الكتاب البورجوازيون والملاكون وأصحاب الفكر الديني وحتى العاهرات، والعصر الذي شاخ وبدأ يتلوى يبدو مرآة للبورجوازي ككلب أجرب:
والبورجوازيُّ على مفترقِ الطُرِقِ
في ياقتِهِ يخفي أنفهْ
- مَن ذا الآخرُ .. هذا مَنْ ..؟
الشعرُ طويلٌ منهدل يتحدثُ همْسا
- الخونة ..
- روسيّا استشهدت الآن
- هو لا شكَّ الكاتبُ فيتيا
وهاكّ .. هناكْ.. برداءٍ ينسابُ طويلا
متوارٍ خلفَ تلالِ الثلج
- ما بكَ لستَ حبوراً هذا اليوم
ياقسُّ .. رفيق؟
هل تذكرُ في أيام زمانْ
إذ كرشك كان
يتقدمكَ وكان ينامُ عليه صليبْ
يلمعُ فوق الناسْ
والملاكةُ غارقةٌ في فروٍ حلوٍ لا أثرى
لاقت بالصدفةِ أخرى
كم ذرّفنا الدمعَ بكينا..
ثم انزلقت – طاخ !!-
وانطرحت .._ آخ آخ –
- شدّي كفي وأعينيني ..
ريحٌ مَرِحة
غضبى فَرِحة
تشتدُّ تلفُّ ذيولَ الأثوابِ
وتطوِّحُ جسدَ الجوّابِ
عموما يمكن القول أن البطل الرئيسي المتمثل بـ (الاثنا عشر) هو الثورة نفسها، فهم أعداء العالم القديم الذي جاءوا منه أيضا حاملين بعض رواسبه، ومن هنا يستمر الصراع متصاعدا بين الطموح والفوضى والمحاولات والحماقات، والتفاوت بين الحقد الأسود والحقد الطاهر، واللافت للنظر أن أفراد (الاثنا عشر) هؤلاء يتطورون أيضا مع تطور الحدث وتصاعده أي مع تطور الواقع نفسه:
ماذا في الآفاقِ...؟ تعالْ
في الآفاقِ سماءٌ سوداءٌ سوداءْ
حقدٌ مخزونْ
حقدٌ يغلي وسْطَ صُدورْ
حقد ٌأسودْ
حقدٌ طاهرْ
إيهِ رفيقي ...انظرْ حاذرْ
..الريح ُتجوبُ، الثلجُ انتثرا
يمضي اثنا عشرَ
لبنادقهم ..أحزمةٌ سوداءْ
من حولهمو النارُ ..النارُ .. النار
بين الأسنانِ لفافاتُ التبغِ تُدار
وعلى الرأسِ سداراتٌ مُنجَعِكة
لا ينقصهم إلا أن يُرسم فوق الظهر إطار
في هيئةِ (آس الدينار )..
صورة الشبان في مجموعة (الاثنا عشر) مميزة أيضا، فهم أشبه ما يكونون بالمحكومين بالأشغال الشاقة في المرحلة القيصرية حيث كانت تدمغ شارة آس الدينارعلى ظهر المجرمين ، ولم يكن صدفة أن يركز بلوك على أحد حراس هذه المجموعة وهو بيوتر أو بيتروخا، ويربطه مع الحدث الداخلي ويختار من الطرف الآخر – فانيا أو فانكا – الذي خان رفاقه وصار من الأعداء وصاحبته كاتيا أو كاتنكا، وهي فتاة رخيصة من أهم صفاتها المعبرة أنها تخفي النقود في المنهدة، وهي لعوب مع الضباط والعسكر، ورغم أن الحدث الداخلي الذي يختاره بلوك قد يبدو عابرا، إلا أنه بالغ الدلالة في فوضوية وحيوية الصراع حين تمر عربة تحمل كاتكا مع صديقها، وينعطف السائس للفرار من كمين (الاثنا عشر) فيطلق بيوتر النار، وتفر العربة فيما تنقذف جثة اخترق الرصاص رأسها، إنها كاتيا التي كانت قبل أن تمضي مع فانيا عشيقة بيتروخا :
- أما فانيا مع كاتيا ، في الخمّارة
- وهي نقودٌ تُخفي في الصدّارة
- فانيوشكا ميسوراً أمسى
- كان لنا وغدا جنديا للأعداءْ
- إي.. يافانكا ياابنَ الكلبة
...بورجوازي..
حاول أن تلثمَ صاحبتي...
فانكا مع كاتكا انشغلا
كيف بماذا قد شُغلا
... ترا لالا ترا لالا ..
من حولهمو النارُ النارُ النارْ..
وإلى الأكتاف
شدَّ الأسلحةَ الزنّار
يتابع الفصيل ( الثوري ) مسيرته التطهيرية وتعقب الأعداء يقوده العلم الأحمر ، ويتوارى الحدث الدرامي لتعود الملحمة إلى رموزها واستنطاقها العاصفة والثلج والريح والكلب الأجرب، وتميل الكفة بوضوح إلى جانب تكريس انتصار الثورة، ويتهالك الأعداء شيئا فشيئا.وتقدم الملحمة المشاهد متداخلة متواصلة كما لو أننا نطل من نافذة ، ثم تتسع المشاهد وتتعدد الأصوات حتى ليبدو صوت الشاعر واحدا منها فقط حتى يمكن القول أن بلوك استطاع بمهارة اختيار الأصوات المحاورة والطارئة لإبراز الواقع بكل زخمه في مرحلة نوعية تاريخية
لا تُسمع في البلدةِ ضجة
وهدوءٌ يعلو برجَ نيفيسكا
الشرطةُ ما عادت ترتعْ
والفتيةُ باتت تتسكعْ
ما من خمرٍ تجرعْ
والبورجوازي
يقفُ هناك ككلبٍ جائعْ
يقفُ صموتا مثلَ سؤال
والعصرُ الشائخ ُ كلبا يقفُ وضيعا خانِعْ
ملويَّ الذيلِ وراءه
وتعود العاصفة لتزأر بقوة أكبر حتى لا يلمح أحد أحدا وتتجانس مع العاصفة الوجدانية لدى بيتروخا الذي قتل حبيبته دون قصد، لكن مسار الأحداث يجبره على النسيان حيث تزداد (الاثنا عشر) قوة وجرأة وتبدأ عمليات واسعة لتصفية رموز وفلول العالم القديم التي باتت تصارع بلا قوة ولا أمل
مَنْ في التلِّ هناك ؟
سلِّم نفسَك يامنحط
سأدغدِغك بهذي الحربة...
... انظرْ وتفرَّسْ في الظلماءْ
مَنْ ذا هرولةً يتوارى
خلفَ الأبنيةِ الصماء؟
... تراخ ... تراخ تاخ تاخ ...
... بِخطىً يمضونَ جليلة
خلفَهم الكلبُ الجائعْ
يتقدمُهم علمٌ قانٍ
حُجِبت في العاصفة الرؤيةُ عن أعيننا
والطلقاتُ فلن تؤذينا
وبخطو ٍ حان ٍ مرتفعٍ وسْطَ الأجواءْ
برذاذِ الثلجِ اللألاءْ
وبإكليلٍ ضَفَرَتْه ورودٌ بيضاءْ
بمقدمةِ الركبِ يضوعْ
ابنُ الربِّ يسوعْ.
والحقيقة أن (الاثنا عشر) تترك تساؤلات عديدة خاصة إن أخذنا بعين الاعتبار طبيعة بلوك ، وفهمه الفلسفي للحياة وخواص الرمزية التي كان من أكبر ممثليها، لكنها عموما تعكس واقع عالم ينهار وآخر ينهض، وأيا كان الأمر فقد استطاع بلوك بجلاء رصد هذه المرحلة التاريخية الحساسة، ورغم أن الحرب الأهلية استمرت عدة سنوات، فإن بلوك رسم بالدرجة الرئيسية عناصر العالم القديم متهاوية غير مقاومة بقوة، فالبورجوازي لا يظهر فعلا عنيفا، بل يخفي أنفه وراء معطفه ذليلا بجانب الكلب ( العصر الشائخ )، وحتى الملاكة- بتشديد اللام - تدعو للشفقة والريح تسخر منها، في حين أظهر ممثلو العالم القديم في الواقع مقاومة ضارية في الصراع، هذا الأمر الذي ظهر ببعض العبارات الإنشائية الوصفية من مثل: عدو ضار، وعدو لا ينام، وعدو يترقب، لكنه لم يظهر كذلك في التصاعد الدرامي، والاتكاء على رمز العاصفة كتعبير عن التغيير يحتاج إلى ظهور عنصري صراع عاتيين أيضا ..وربما لم يكن مطلوبا من الشاعر ان يقدم ملحمة تسجيلية، واكتفى بإبراز الملامح الرئيسية المتصارعة الموحية، وأفلح في ذلك بفنية عالية كشاعر وشاهد على العصر، وفعل ذلك محافظا على حسه المسيحي المتسامي بحيث رسم يسوع في مقدمة الركب نهاية الملحمة كرمز لبداية عصر جديد يأمل أن يكون متسامحا.