في حديث خاص لـ RT، أكد عبد الله المصري أن روسيا وقبلها الاتحاد السوفيتي دائما ما كانا منفتحين على العالم، وحتى أيام الحرب الوطنية العظمى، لم يتوقف الاتحاد السوفيتي يوما عن تقديم مؤلفات بيتهوفن وفاغنر في قاعات الموسيقى ودور الأوبرا، أما أوروبا، فدوما ما كانت تخاف "المارد" الروسي، وتغلق أبوابها أمام روسيا، وتتفنن في خلق الأساطير والسرديات المعادية.
تقدم مجموعة من الفنانين الروس أعمالا لعبد الله المصري بقاعة رخمانينوف في كونسيرفاتوار موسكو (تشايكوفسكي) تتضمن "مرثية" للبيانو المنفرد، وسوناتا للفيولينه والبيانو، ومتتالية للفلوت والبيانو، وسوناتا "الوجه الآخر للقمر" للبيانو المنفرد، وصولو للفلوت بعنوان "هدايا السماء لأطفال الأرض المنكوبة"، ومقطوعة من الفولكلور العراقي بعنوان "جمالي والي"، ولونغا رياض للفيولينه والبيانو.
تخرج عبد الله المصري من كونسيرفاتوار تشايكوفسكي في فصل الأستاذين قسطنطين باتاشوف ورومان ليدينيوف، حيث درس في الفترة من 1982-1994، وهي فترة لا شك أنها كانت غنية بالأحداث، شأنها في ذلك شأن الفترة الراهنة التي يعود فيها المصري لتقديم مؤلفاته بقاعات المدرسة الأم التي تخرج منها.
عن تلك الفترة قال المؤلف الموسيقي اللبناني: "لقد عشنا كل هذه الظروف، الطبيعية، وغير الطبيعية في آن، بحلوها ومرها. كان الأمر بالنسبة لنا يبدو وكأنه معتاد، كوني أتيت من منطقة الشرق الأوسط غير المستقرة أمنيا، لكني ظننت أن ما مر به الاتحاد السوفيتي من تفكك كان أمرا حتميا، نظرا لوجود خلل معين، دفعت روسيا ثمنه فيما بعد، وربما لا زالت".
حول الثقافة سألته: من يخسر من العقوبات المفروضة على روسيا فنيا؟ وهل الفن مرتبط بالسياسة، أم يجب أن ينعزل الفنان عن سياسة الدولة؟ وهل يجب/يفترض أن يكون للفنان موقف سياسي في نهاية المطاف؟
وكان رد عبد الله المصري: "إنها حقا قضية شائكة، ووعرة، فمن جانب نرى الخسارة الشخصية التي يفقد على أثرها فنانون أماكن عملهم، وموارد رزقهم، وعلى الجانب الآخر نرى فنانين فقدوا أنفسهم ووطنهم وهويتهم وسمعتهم وكل ما كانوا يملكون من حب الجماهير وقاعات الحفلات. على أي حال أرى أننا حينما ننزع السياسة عن الفن، يمكننا حينها أن نرى بوضوح عبقرية شوستاكوفيتش، بعيدا عن بكائيات الغرب على (الاضطهاد والقمع الستاليني)، وأن نلمس بتجرد لمعان سترافينسكي، بعيدا عن الهجوم على شخصه، أو على آرائه أو على شطحاته التجريدية بدعوى (التخريب). كلاهما شوستاكوفيتش وسترافينسكي عبقريان، وثروة للبشرية بشكل عام. وبرغم أن السياسة أحيانا ما تفسد بعضا الفن، لكن الحقيقي يبقى وتذهب السياسة".
وامتدادا للحديث عن شوستاكوفيتش وعن سترافينسكي يقول عبد الله المصري: "إن شوستاكوفيتش هو مؤلف السيمفونية (السيمفونيست) الأبرز في القرن العشرين برمته، ليس في الاتحاد السوفيتي، وإنما في العالم، في الشرق والغرب على حد سواء. فقد كتب 15 سيمفونية، وأكد وجوده كمؤلف موسيقي عظيم تمكن من بناء عالمه بخيوط تحمل بصمات نسيجه الموسيقي الشخصي المتفرد، بكل عناصر التأليف الموسيقي الأكاديمي الذي درسناه. كان دميتري شوستاكوفيتش متمكنا في قدرته على تحويل الفكرة الموسيقية الصغيرة المنمنمة ربما إلى عمل سيمفوني كبير، بصياغة أوركسترالية هارمونية بوليفونية معقدة ومتشابكة، وفي الوقت نفسه تحمل طابع الزمن، وهوية الإنسان السوفيتي، لذا فهو عبقري بكل المقاييس".
سألته: وسترافينسكي؟
فقال: "أما سترافينسكي، فبرغم ما قد يبدو على السطح من تجريديته، وإقدامه على تنافرات بدت في زمنه غريبة، إلا أن قدرته على خلق حالة وجدانية وانفعالات متنوعة تتسم بنفس عفوية موتسارت، وفي نفس الوقت بامتلاك ناصية صياغة القرن العشرين وتقنيات التأليف المعاصرة آنذاك".
وعن بروكوفييف، الذي يراه عبد الله المصري "موتسارت القرن العشرين"، يقول عبد الله المصري: "إنك تبتسم لدى سماعك النغمة الأولى لأي عمل لبروكوفييف، ما يجعلني أقول إنه موتسارت القرن العشرين هو أن بصمته واضحة بشكل يستحيل أن تخطؤه، فقد تمكن من صنع لغته الخاصة، شأنه في ذلك شأن موتسارت، تمكن من صنع عالمه السلس والجميل بألوانه وأطيافه المدهشة".
فماذا عن عبد الله المصري؟ كان سؤالي
تابع عبد الله المصري: "لقد نشرت مؤخرا السيمفونية الرابعة التي تحمل اسم "خواطر"، وهي عمليا عبارة عن ملامح انفعالية لإنسان ما بعد انتهاء الكون. لقد تصورت أن كل التكنولوجيا التي عرفناها، وكل الإنجازات الحضارية التي عرفها الإنسان اختفت، وبقي العنصر التلقائي. لهذا حاولت التعبير عن الأحاسيس ببدائية شديدة، حاولت أن أعود إلى تقنية (الدندنة)، خواطر (مدندنة) في زمن لا زال الإنسان فيه يعيش تحت الأرض في سراديب ودهاليز هربا من الغبار النووي ربما، من خطر الحرب العالمية الثالثة ربما.. ولكن، وفي نفس الوقت، نلمح في الموسيقى تفاؤلا حذرا غير مبرر. تفاؤل وراثي تحمله جينات الإنسان الحي وغريزته للبقاء".
سألته: فما الذي دفعك نحو هذه "الخواطر"؟
فقال: "الكوفيد، انفجار مرفأ بيروت وغيرها من الأحداث التي أصبحنا نراها كل ساعة على الشاشات بشتى أحجامها، كل هذا دفعني للانقلاب على الأفانغارد، جعلني أسمع أنين الإنسان تحت الدمار. أنا إنسان قادم من الشرق الأوسط وحوض البحر الأبيض المتوسط، وأحمل على أكتافي حملا تاريخيا ثقيلا من المعاناة والاستغلال والاستعمار والاحتلال والصراعات. وهذه لغتي، هذا عالمي الموسيقي الذي رغبت في التعبير عنه".
ماذا عن الإنتاج؟ من يمول تسجيلاتك وحفلاتك؟
أشار عبد الله المصري إلى أن 80% أو أكثر من حفلاته وتسجيلاته يمولها ذاتيا حتى لا يجبره أحد على كتابة ما لا يرغب في كتابته.
وبشأن المشهد الموسيقي العربي قال المؤلف الموسيقي اللبناني عبد الله المصري إن إنشاء الأوركسترات، والقاعات الموسيقية وخشبات المسرح متعددة الاستخدامات وغيرها من المنشآت الثقافية التي تأتي ضمن نهضة ثقافية معتبرة ملحوظة في عدد من الدول العربية تمثل نقطة انطلاق معتبرة وهامة لا تنفصل عن سعي المنطقة منذ منتصف القرن الماضي للبحث عن هوية ثقافية متسقة مع المشهد الثقافي العالمي. وتابع: "لا شك أن ثورة الاتصالات والقدرة على التواصل والحركة، وتطور التكنولوجيا بشكل غير مسبوق في قرننا الحالي، كل هذا سيصب في مصلحة المشهد الموسيقي العربي".
وشغل عبد الله المصري الحاصل على درجة الدكتوراه من روسيا منصب أستاذ التأليف الموسيقي والتوزيع الأوركسترالي في الفترة من 1994-2000 بالمعهد العالي للفنون الموسيقية بدولة الكويت، ويشغل الآن منصب أستاذ علوم الموسيقى (الهارموني والقوالب الموسيقية وآلة البيانو والكورال) بكلية التربية الأساسية التابعة للهيئة العامة للتعليم التطبيقي والتدريس بدولة الكويت.
أجرى الحوار الزميل محمد صالح.
المصدر: RT